Monday, May 22, 2006

شفرة دافنشي او الكأس المقدسة

شفرة دافنشي او الكأس المقدسة الاسرار والاساطير والتشويق والخيال عرض وتلخيص د. عباس محمد حسن amhi43@yahoo.com رواية دان براون " شفرة دافنشي " ترتبط بأهم سؤال طرح في تاريخ المسيحية وهو : هل كان للسيد المسيح عليه السلام سلالة ؟؟ .. كما ترتكز علي الأسرار والأساطير التي أحاطت بقصة العشاء الاخير للسيد المسيح عليه السلام حيث يمجد الانجيل تلك اللحظات علي انها اللحظات الحاسمة لظهور الكأس المقدسة . وقد عرفت الكلمة قديما باسم سانغريال sangreal- حيث كانت تعني ما له علاقة بالدم ثم تطورت عبر العصور الي مصطلح آخر فاصبحت تعني "الكاس المقدسة " حين انقسمت الكلمة sangreal الي كلمتين san و greal أي "الكاس المقدسة " . لقد أثارت تلك الكلمة مئات التساؤلات والفت مئات الكتب عنها وكانت أكثر المواضيع اثارة للجدل والاهتمام في أوساط المؤرخين . وقد استخدم دان براون بذكائه وبراعته وعبقريته كل تلك المعلومات والأسرار والاساطيرليقدم لنا قصة من أغرب القصص وأكثرها اثارة وغموضا كما وصفها الكاتب " نيلسون دي ميل " فما هو ملخص هذه القصة الغريبة المثيرة كما اوردها دان براون علي لسان أبطال روايته ؟ هنالك جمعية سرية تسمي جمعية سيون تتخذ من فرنسا مقرا رئيسيا لها وتجتذب هذه الجمعية أعضاء متنفذين في كل أنحاء اوروبا ويمكن القول انهم احدي اقدم المجتمعات السرية في العالم وقد ضمت الجمعية افرادا من ارفع الشخصيات في التاريخ ومنهم : بوتيشلّي والسير اسحق نيوتن وفكتور هوجو وليوناردو دافنشي وحديثا جان كوكتو الفنان الباريسي المعروف . وقد كان دافنشي رئيسا للجمعية والمعلم الاكبر من عام 1510 الي 1519 . وكان أعضاء الجمعية يتقاسمون رابطة أخوية تاريخية فقد كانوا ينبهرون بأيقونات الآلهة الأنثي وتقديس الطبيعة ومعارضة آراء الكنيسة .. وللجمعية تاريخ موثق من تبجيل للانثي المقدسة وهي عبارة عن المذهب الوثني لعبادة الآلهة الانثي . وبالرغم من ان دان براون لا ينكر ما قدمته ونشرته الكنيسة الحديثة من خير في العالم المليء بالاضطرابات هذه الايام الا انه يري انه كان لها تاريخ مطبوع بالعنف فحملتها الشعواء التي شنتها بهدف " اعادة الأديان الوثنية التي تقوم علي تقديس الأنثي الي جادة الحق وطريق الصواب " استمرت علي مدي ثلاثة قرون استخدمت فيها طرقا ووسائل تثير الرعب في النفوس . وقد قامت محكمة التفتيش الكاثوليكية بنشر الكتاب الذي يمكن أن يصنف علي أنه اكثر منشور دموي عرفه تاريخ البشرية علي الأطلاق وهو " مالوس مالفيكاروم " – أو مطرقة الساحرات –هذا الكتاب الذي لقن العالم فكرة " خطر النساء الملحدات ذوات الأفكار المتحررة " وعلّمت الأكليروس كيفية العثور عليهن وتعذيبهن وقتلهن . ومن بين اللواتي كانت تحكم عليهن الكنيسة بأنهن " ساحرات " كن كل العالمات والكاهنات والغجريات والمتصوفات ومحبات الطبيعة وجامعات الأعشاب الطبية وأي امرأة يشك بأنها تنسجم مع العالم الطبيعي . (وكان يتم قتل القابلات بسبب ممارستهن المهرطقة حيث يستخدمن الخبرة الالهية – حسب زعمهن - علي النساء عقابا لهن علي ذنب حواء التي أكلت من تفاحة المعرفة ، وهذا ما كان أساسا لنشوء فكرة الخطيئة الأولي ). وعلي مدي ثلاث مائة عام من مطاردة الساحرات حرقت الكنيسة خمسة ملايين أمرأة .. وفي النهاية أثمر تشويه الحقيقة واراقة الدماء ما نراه من أحوال النساء اليوم . فالنساء اللواتي كنّ يوما نصفا أساسيا في التنور الروحي والديني طردوا اليوم من معابد العالم .فلا توجد اليوم حاخامات يهوديات ولا كاهنات كاثوليكيات . والأتحاد الفطري بين الرجل والمرأة والذي يكتمل من خلاله كل منهما ليصبح كلا روحيا واحدا والذي كان يوما فعلا مقدسا تغير مفهومه وأصبح فعلة مشينة . ورجال الأكليروس الذين كانوا يوما يأمرون بالاتحاد مع الانثي التي تكملهم للتقرب من ما يسمونه " الرب " خافوا اليوم من حاجاتهم الجنسية الفطرية ونظروا اليها علي انها عمل من الشيطان بالتعاون مع شريكه المفضل " المرأة " . واستغلت ما كان متعارفا عليه منذ اقدم العصور لارتباط مفاهيم الذكر والانثي بالجهتين اليسار واليمين فاليسار هو الانثي واليمين هو الذكر فأخذت الكنيسة تستغل ارتباط المراة بالجانب الأيسر وأشرعت معاولها هدما وتشويها واساءة لليسار . ففي فرنسا وايطاليا اتخذت كلمة اليسار معني سلبيا خطيرا بينما كان نظراؤهم من الجانب الأيمن مثالا للأستقامة والتفوق والصواب !! وحتي يومنا هذا اعتبر الفكر الراديكالي أنه ينتمي للجناح الأيسر وأيضا الفكر غير العقلاني عقلا يساريا يحمل كل ما هو شرير وفاسد !! لقد ولّي زمن الآلهة الأنثي واصبحت الارض عالما للرجل وامضي الغرور الذكري ألفي عام يصول ويجول طليقا دون نظيرته الانثي . واعتقدت أخوية سيون أن محو أثر الأنثي "المقدسة" من الحياة المعاصرة هو سبب ما سماه شعب الهوبي من سكان أمريكا الأصليين "كويانيسكواستي" أي " الحياة دون توازن " وهو وضع غير مستقر أكبر دليل عليه حروب غذّاها التستوستيرون وكثرة الجماعات المنظمة التي تقوم علي الكراهية ضد النساء واهمال متزايد للأم الأرض . ويمتد تاريخ الأخوية (السري) أي أخوية سيون لأكثر من ألف عام .. وهو تاريخ مذهل من الأسرار والأبتزاز والخيانة وحتي العذاب العنيف علي يد بابا غاضب .. فقد تأسست أخوية سيون في القدس عام 1099 علي يد ملك فرنسي يدعي "غودفروا دو بيون" بعد احتلاله المدينة مباشرة ويقال ان هذا الملك كان يحتفظ بسر عظيم . سر كان في عائلته منذ زمن السيد المسيح عليه السلام وخوفا من ان يضيع هذا السر بعد موته قام بتأسيس جمعية سرية وهي أخوية سيون وكلف أعضاءها بحماية سره وذلك بنقله من جيل الي جيل . وخلال السنوات التي قضوها في القدس سمع أعضاء الأخوية بوجود وثائق سرية مدفونة تحت أنقاض معبد هيرودوت والذي كان بدوره مبنيا علي أنقاض هيكل سليمان . وحسب اعتقادهم كانت تلك الوثائق تثبت سر غودفروا العظيم . كما انها كانت خطيرة بمحتواها الي الحد الذي يجعل الكنيسة مستعدة لفعل أي شيء علي الأطلاق للحصول عليه . وقطع أعضاء الأخوية علي أنفسهم عهدا بأن يحصلوا علي هذه الوثائق من تحت أحجار المعبد عاجلا أم آجلا كي يحافظوا عليها ويحموها الي الأبد حتي لا تموت الحقيقة أبدا . ولتحقيق هذا الهدف قام أعضاء الأخوية بأنشاء فرقة عسكرية وهي مجموعة تتألف من تسعة فرسان أطلقوا عليهم اسم "أخوية فرسان المسيح وهيكل سليمان الفقراء" التي تعرف اكثر بأسم "فرسان الهيكل" .. وكان هناك خطأ شائع بان فرسان الهيكل قد أوجدوا لحماية الأرض المقدسة ولكن فكرة حماية الحجاج كانت الغطاء الذي عمل من تحته الفرسان للقيام بمهمتهم . وكان الهدف وراء وجودهم في الأرض المقدسة هو استعادة الوثائق من تحت أنقاض المعبد . ولا أحد يعرف ان كانوا قد عثروا عليها أم لا ولكن هناك امر واحد يتفق عليه العلماء وهو أن فرسان المعبد اكتشفوا شيئا ما تحت الأنقاض .. شيئا جعلهم أغنياء ومتنفذين الي حد يفوق الخيال .. كان فرسان المعبد في الارض المقدسة خلال الحملة الصليبية الثانية وقالوا للملك بلدوين الثاني انهم هناك لحماية الحجاج في الطريق .. وبالرغم من ان الفرسان لم يحصلوا علي أي عائد مادي مقابل هذه المهمة وفاء لقسمهم بأن يظلوا فقراء الا أنهم أخبروا الملك برغبتهم في الحصول علي مكان بدائي يبيتون فيه ليلا وطلبوا منه الأذن ليسكنوافي الأسطبلات الموجودة تحت أنقاض المعبد . فوافق الملك علي طلب الجنود واتخذ الفرسان مسكنهم البائس تحت ركام المقام الخرب . وبالطبع لم يكن اختيارهم الغريب لذلك السكن عشوائيا علي الأطلاق فقد كان الفرسان علي ثقة تامة بأن وثائقهم المنشودة كانت مدفونة في مكان عميق تحت الأنقاض في حجرة تحت قدس الأقداس . وكانت هذه الحجرة حرفيا مركز الدين اليهودي . عاش الفرسان التسعة هناك حوالي عقد كامل من الزمان يحفرون الصخر الأصم بسرية تامة . وبعد تسع سنوات عثر الفرسان في النهاية علي ما بحثوا عنه طويلا . ثم أخذوا الكنز من المعبد وسافروا به الي أوروبا حيث أصبح نفوذهم واسعا جدا بين ليلة وضحاها .. ولا أحد يعلم بالتحديد فيما اذا كان الفرسان قد قاموا بابتذاذ الفاتيكان أو أن الكنيسة اشترت ببساطة سكوتهم لكن المؤكد ان البابا اينوسنت الثاني قام في الحال في خطوة لم يسبق حدوثها من قبل باصدار أمر رسمي بابوي يقضي بمنح فرسان الهيكل سلطة لا محدودة وأعلن أن لهم قوانينهم الخاصة بهم وانهم قوة عسكرية تتمتع بالاستقلال الذاتي التام بعيدا عن أي تدخل من الملوك والاساقفة أي أنهم مستقلون دينيا وسياسيا . وبفضل هذه السلطة المطلقة التي منحها لهم الفاتيكان توسع فرسان الهيكل الي حد كبير من حيث العدد والقوة السياسية . وجمعوا أراضي وممتلكات عديدة في أكثر من اثني عشرة دولة وأخذوا يمدون الملوك المفلسين بالقروض مع فرض فوائد عليها مما أدي الي زيادة ثرواتهم ونفوذهم أكثر فأكثر وبذلك كانوا نواة نظام البنوك الحديثة ..!! ومع حلول عام 1300 م كان قانون الفاتيكان قد مكّن فرسان الهيكل من حشد قوة عظمي الي درجة قرر معها البابا كليمانت الخامس أنه يجب أن يضع حدا لهم . فقام بالتنسيق مع ملك فرنسا فيليب الرابع بالتخطيط لعملية عبقرية لسحق فرسان الهيكل والأستيلاء علي كنزهم . وبذلك يصبح بامكان الكنيسة وضع يدها علي الأسرار التي حجبت طويلا عن الفاتيكان وبمناورة عسكرية أصدر البابا أوامر سرية مختومة علي أن يفتحها جنوده في نفس الوقت في كافة أنحاء اوروبا يوم الجمعة الثالث عشر من شهر اكتوبر عام 1307 م . وفي فجر اليوم الثالث عشر فتحت الوثائق وكشفت محتواها المروع : فقد ادعي كليمانت في رسالته ان "الرب" -كما قال - قد زاره في الحلم وحذره من ان فرسان الهيكل هم هراطقة مجرمون يعبدون الشيطان وشاذون ويستخفون بالصليب وسلوكيات كافرة اخري . وقد طلب "الرب" من البابا كليمانت ان يطهر الأرض منهم بالقبض عليهم وتعذيبهم حتي يعترفوا بجرائمهم التي اقترفوها بحق "الرب" . تم تنفيذ عملية البابا بحذافيرها . ففي ذلك اليوم تم أسر عدد لا يحصي من الفرسان وتم تعذيبهم بلا رحمة وأخيرا حرقوا علي الأعمدة كالهراطقة والسحرة .. وتنعكس أصداء هذه المأساة اليوم في الحضارة الحديثة حيث يعتبر يوم الجمعة الذي يقع في الثالث عشر من الشهر يوم شؤم . ولكن لم يقض عليهم جميعا بل ما زالت هناك (أخويات) اخري لفرسان الهيكل حتي اليوم وهم موجودون حتي اليوم تحت أسماء مختلفة فقد كان هناك حلفاء ذوي نفوذ واسع تمكنوا من مساعدة بعض الفرسان وتمكن البعض الآخر من الهرب من قبضة الفاتيكان . أما الهدف الحقيقي الذي كان يسعي كليمانت وراءه فكان كنز فرسان الهيكل العظيم الذي يتألف من مجموعة الوثائق والذي يبدو أنه مصدر قوتهم ، لكنه لم يتمكن من الحصول عليه . فقد كانت الوثائق في عهدة مهندسي فرسان الهيكل الغامضين أي أخوية سيون التي كان أعضاؤها محاطين بسرية تامة جعلتهم في مأمن من مجزرة الفاتيكان . وعندما ضيق الفاتيكان الخناق علي فرسان الهيكل قام أعضاء الأخوية بتهريب الوثائق خلسة تحت جنح الليل من مقر للفرسان في باريس علي متن سفن تابعة لهم في لاروشيل . ولكن الي أين ذهبت هذه الوثائق؟؟ يعتقد بانها موجودة في مكان ما في المملكة المتحدة ؟ وعلي مدي الف سنة تم تناقل الأساطير حول هذا السر ومجموعة الوثائق الكاملة وسبب قوتها والأسرار التي تكشفها وكل ذلك اصبح يعرف اليوم بأسم وحيد هو ( سانغريال- ٍSangreal ) لقد منحت وثائق السانغريال لفرسان الهيكل قوة عظيمة لأنها كشفت في صفحاتها طبيعة الكأس الحقيقية . كان الناس يعتقدون ان الكاس المقدسة هي الكاس التي شرب منها السيد المسيح عليه السلام في العشاء الاخير . ولكن دان براون يوضح مرة اخري علي لسان أبطال روايته انه لكي نتفهم ما هي الكاس المقدسة أو الغريل يجب ان نفهم الأنجيل "العهد الجديد" أولا . وان نفهم الرموز التي حاول أحد أهم حماة سر الغريل وهو "ليوناردو دافنشى" الفنان العظيم ان يرشدنا بها الي هذه الكاس المقدسة في أعماله الفنية – وهنا تظهر لنا قدرة الكاتب دان براون في تحليلاته لاستغلال الادلة الرمزية التي تكشفها لوحات ليوناردو وربط ذلك بوجهة نظره فيما يخص العهد الجديد والتي تظهر جلية في "مذكرات دافنشي في اللاهوت الجدلي والتأمل" . فقد كانت مشاعر دافنشي تجاه الأنجيل ذات صلة مباشرة بالكأس المقدسة . لقد كان تأثير السيد المسيح عليه السلام تاثيرا مذهلا أسقط ملوكا وألهم الملايين وتم تسجيل حياته بيد الآلاف من أتباعه في كل انحاء الارض وقد تم أخذ اكثر من ثمانين انجيلا بعين الاعتبار لتشكيل العهد الجديد الا ان القليل منها فقط تم اختياره في النهاية وهي انجيل متّي ومرقص ولوقا ويوحنا . ولكن من الذي قرر أي انجيل يجب اختياره لتشكيل العهد الجديد ؟؟؟ يقول دان براون ( علي لسان ابطال روايته ) ان الانجيل كما نعرفه اليوم كان قد جمع علي يد الامبراطور الوثني قسطنطين العظيم . والامبراطور قسطنطين بالكاد يعتبر مسيحيا فقد كان وثنيا طوال حياته ولم يتم تعميده الا وهو علي سرير الموت حيث كان أضعف من أن يعترض علي ذلك . في عصر قسطنطين كان الدين الرسمي في روما هو عبادة الشمس "التي لا تقهر" وكان قسطنطين كبير كهنتها . لكن لسوء حظه كان هناك هياج ديني متزايد يجتاح روما . فقد كان عدد أتباع المسيح "عليه السلام" قد تضاعف بشكل مهول وذلك بعد مرور ثلاثة قرون من دعوته . عندئذ بدأ المسيحيون والوثنيون يتحاربون وتصاعدت حدة النزاع بينهما حتي وصلت لدرجة هددت بانقسام روما الي قسمين . فرأي قسطنطين انه يجب اتخاذ قرار حاسم في هذا الخصوص . وفي عام 325 قرر توحيد روما تحت لواء دين واحد ألا وهو المسيحية . وبالرغم من وثنيته فقد كان قسطنطين رجل أعمال حاد الذكاء فقد استطاع ان يري ان نجم المسيحية كان في صعود فقرر ببساطة ان يراهن علي الفرس الرابحة . ولازال المؤرخون حتي اليوم يتعجبون لذكاء قسطنطين في الطريقة التي اتبعها في تحويل الوثنين من عبادة الشمس الي اعتناق دين المسيحية . حيث خلق وضعا دينيا كان مقبولا من الطرفين وذلك من خلال دمج الرموز والتواريخ والطقوس الوثنية في التقاليد والعادات المسيحية الجديدة . فآثار الدين الوثني في الرموز المسيحية شديدة الوضوح ولا يمكن نكرانها - حسب رؤية دان براون - . فأقراص الشمس المصرية أصبحت الهالات التي تحيط برؤوس القديسين الكاثوليك والرموز التصويرية لأيزيس وهي تحضن وترضع طفلها المعجزة حورس أصبحت أساس صور السيدة مريم العذراء وهي تحتضن المسيح الرضيع . وكل عناصر الطقوس الكاثوليكية مثل تاج السيف والمذبح والتسبيح والمناولة وطقس "طعام الرب" كلها مأخوذة مباشرة من أديان قديمة وثنية غامضة فمثلا : الأله الفارس "مثرا" مثلا الذي يعود الي ما قبل المسيحية والذي كان يلقب بأبن الرب ونور العالم – كان قد ولد في الخامس والعشرين من ديسمبر وعندما مات دفن في قبر حجري ثم بعث حيا بعد ثلاثة أيام (قارن مع قصة السيد المسيح في الانجيل!!) والغريب ان الخامس والعشرين من ديسمبر هو ذكري ميلاد اوزيريس وأدونيس وديونيزوس . وحتي يوم العطلة الاسبوعية الدينية في المسيحية كان قد سرق من الوثنيين عابدي الشمس . ففي البداية كان المسيحيون يتعبدون الرب في نفس يوم اليهود شباط أو السبت لكن قسطنطين غيره ليتوافق مع اليوم الذي يقوم فيه الوثنيون بعبادة الشمس Sunday . وحتي هذا اليوم يرتاد الناس الكنيسة صباح كل يوم أحد لحضور القداس دون أن تكون لديهم أي فكرة أنهم هناك يوم احتفال الوثنيين بالشمس المقدسة Sunday أو يوم الشمس . ولكن هل لكل هذا علاقة "بالكأس" ؟ نعم . فأثناء عملية دمج الأديان تلك كان قسطنطين بحاجة لتوطيد التعاليم المسيحية الجديدة فقام بعقد الأجتماع المسكوني المشهور الذي عرف بالمجمع "النيقاوي" نسبة الي مدينة "نيقية" وهي المكان الذي شهد ولادة قانون الأيمان المسيحي . ويدعي دان براون أنه في هذا الأجتماع تمت مناقشة العديد من مظاهر المسيحية والتصويت عليها – مثل اليوم الذي سيتم فيه الأحتفال بعيد الفصح ودور الأساقفة وادارة الأسرار المقدسة وأخيرا الوهية يسوع المسيح . فقد كان المسيح حتي تلك اللحظة في تاريخ البشرية كان المسيح في نظر أتباعه نبيا فانيا .. رجل عظيم وذو سلطة واسعة الا أنه كان رجلا .. انسانا فانيا .. وأقترحت فكرة "ابن الرب" رسميا وتم التصويت عليها من قبل المجلس النيقاوي حيث فازت وقبلت فقد كان تاكيد فكرة الوهية المسيح ضروريا جدا لتوطيد الوحدة في الامبراطورية الرومانية ولأقامة القاعدة الجديدة لسلطة الفاتيكان . ومن خلال المصادقة الرسمية علي كون المسيح ابنا للرب حوّل قسطنطين المسيح الي اله مترفع عن عالم البشر .. كينونة تتمتع بسلطة لا يمكن تحديها أبدا ..وهذا الأمر لم يعمل علي وضع حد لتحديات الوثنيين للمسيحية فحسب ، بل بسبب ذلك لن يتمكن أتباع المسيح الآن من التحرر من الخطايا الا بواسطة طريق مقدسة جديدة وهي الكنيسة الكاثوليكية الرومانية . ان المسألة كلها كانت مسألة سلطة ونفوذ لا أكثر .ان المسيح كمخلص كان ضروريا لتفعيل وظيفة الكنيسة والدولة . ويدعي كثير من الباحثين ان الكنيسة الأولي قامت " بسرقة " المسيح حرفيا من أتباعه الأصليين وذلك بمصادرة رسالته الانسانية ودفنها في عباءة لا يمكن اختراقها من ( الألوهية ) التي استغلوها لتوسيع نفوذهم . كان المسيح رجلا عظيما وجبارا بحق . والمناورات السياسية الماكرة التي كان قسطنطين قد قام بها لا تقلل أبدا من شأن مهابة حياة المسيح . ويستمر أبطال الرواية في مناقشة الأحداث التاريخية التي صاحبت تلك الفترة وطرح آرائهم حولها قائلين :" لم يقل أحد أبدا غير ان المسيح عليه السلام كان عظيما ولم ينكرأحد ابدا ان المسيح كان موجودا وألهم الملايين وسما بهم الي حياة أفضل . وكل ما هنالك أن قسطنطين قام باستغلال تأثير المسيح الهائل وأهميتة العظيمة في العالم وبذلك شكّل وجه المسيحية كما نعرفها الآن . وهنا لب الموضوع : بما أن الامبراطور قسطنطين قد قام برفع منزلة المسيح عليه السلام بعد مضي أربعة قرون علي موته فقد كانت هناك الآلآف من الوثائق التي قد سجلت حياته علي أنها حياة انسان فان . عرف قسطنطين أنه لكي يتمكن من اعادة كتابة التاريخ كان بحاجة لضربة جريئة . ومن هنا ولدت أهم لحظة في التاريخ المسيحي . فقد أمر قسطنطين بأنجيل جديد وقام بتمويله . وأبطل فيه الاناجيل التي تحدثت عن السمات الأنسانية للمسيح وزين تلك التي أظهرت المسيح بصفات الوهية . وحرمت الأناجيل الأولي وتم جمعها وحرقها . وكان كل من يفضل الأناجيل الممنوعة علي نسخة قسطنطين يتهم بالهرطقة . وكلمة مهرطق تعود الي تلك اللحظة التاريخية وان الكلمة اللاتينية هيرينتكوس Haereticus تعني "الأختيار" . لذا فان اولئك الذين "اختاروا" التاريخ الأصلي للمسيح كانوا أول "المهرطقين" في التاريخ . ولحسن الحظ – حسب رأي دان براون - فان بعض الأناجيل التي حاول قسطنطين محوها من الوجود تمكنت من النجاة . فقد تم العثور علي وثائق البحر الميت عام 1950 مخبأة في كهف بالقرب من قمران في صحراء النقب . كما عثر علي الوثائق القبطية عام 1945 عند واحة حمادي . وقد تحدثت تلك الوثائق عن كهنوت المسيح بمصطلحات انسانية تماما بالأضافة الي أنها روت قصة الغريل الحقيقية . وقد حاول الفاتيكان جاهدا أن يمنع نشر تلك الوثائق حيث أن تلك الوثائق تلقي الضوء علي تناقضات وفبركات تاريخية تؤكد بشدة أن الأنجيل الحديث كان قد جمع ونقح علي يد رجال ذوي أهداف سياسية تتجلي بنشر - ما يسميه دان براون- ( أكاذيب ) حول الوهية الأنسان يسوع المسيح عليه السلام واستخدام تأثيره لتدعيم قاعدة سلطتهم ونفوذهم . أما بالنسبة للكأس المقدسة فقد أشارت اليها لوحات ليوناردو دافنشي ففي أشهر لوحاته "العشاء الأخير" التي صورت يسوع المسيح ورسله في اللحظة التي أعلن فيها أن أحدا سيخونه : فالمعروف أنه في قصة العشاء الأخير كان المسيح عليه السلام يجلس في الوسط وعن يمينه وعن شماله يجلس ستة أشخاص وقد أكل المسيح ورسله الخبز وبعد العشاء شرب المسيح قدحا من النبيذ بصحبة رسله – أي كاسا واحدة هي كأس القربان أو كأس المسيح : "الكأس المقدسة" لقد مرر المسيح قدحا واحدا من النبيذ كما يفعل المسيحيون اليوم أثناء المناولة تماما ... ولكن اللوحة ويا للعجب تشير الي أن كل واحد يجلس الي الطاولة وأمامه قدح من النبيذ بما فيهم السيد المسيح عليه السلام . ثلاثة عشر قدحا . وعلاوة علي ذلك كانت الأقداح صغيرة وليست لها ساق وكانت مصنوعة من الزجاج . لم يكن هناك كأس قربان في اللوحة . لا وجود للكأس المقدسة . ويبدو ذلك غريبا لأن الأنجيل وأسطورة الكأس المقدسة المألوفة يمجدان معا تلك اللحظة علي أنها اللحظة الحاسمة لظهور الكأس المقدسة . ان هذه اللوحة هي المفتاح الأساس لحل غموض الكأس المقدسة فليوناردو دافنشي قام بفضح كل شيء علي الملأ في " لوحة العشاء الأخير " فالمفروض أن تكون اللوحة لثلاثة عشر رجلا ولكن عند تفحص اللوحة نجد أن الشخص الذي يجلس في مكان الشرف عن يمين المسيح هو شخص ذو شعر أحمر كثيف ويدين ناعمتين مطويتين وصدر صغير وهذا الشخص دون شك أمرأة !! هذه المرأة تظهر في اللوحة كصبية صغيرة في السن ويبدو عليها الورع . ذات وجه يتسم بالرزانة والحشمة . وهذه المرأة هي المرأة التي بأمكانها قلب الكنيسة رأسا علي عقب . انها مريم المجدلية . ويستطرد دان براون علي لسان أبطال الرواية في شرح ما قامت به الكنيسة – حسب رأيه – كما يلي : " لقد شوهت الكنيسة فكرتنا عن مريم المجدلية خلال حملتها التي أطلقتها ضدها . فقد كانت الكنيسة بحاجة لتشويه سمعة مريم المجدلية وذلك للتغطية علي سرها الخطير وهو دورها ككأس مقدسة . لقد كانت الكنيسة تحذف من الأنجيل الذي جمع في عهد قسطنطين أي مظاهر انسانية فانية من حياة المسيح . وقد كان هناك موضوع بشري مزعج يتكرر في كل الأناجيل هو موضوع زواج مريم المجدلية من يسوع المسيح وكل هذا مذكور في السجلات التاريخية . وكان دافنشي علي علم تام بهذه الحقيقة . ولوحة العشاء الأخير هي صرخة للعالم للفت نظرهم الي أن يسوع والمجدلية كانا زوجين .. كما يمكن ملاحظة أن يسوع والمجدلية يلبسان ثيابا متماثلة تماما لكن بألوان متعاكسة فيسوع كان يرتدي ثوبا أحمر وفوقه عباءة زرقاء في حين أن مريم المجدلية كانت ترتدي ثوبا أزرق وفوقه عباءة حمراء .. كما ان المسيح وعروسه يبدوان وكأنهما متصلين عند الورك ثم يبتعدان عن بعضهما في الطرف الأعلي وكأنهما بهذه الوضعية يرسمان شكلا واضحا ألا وهو الكأس أي شكل V وهو كناية عن الكأس المقدسة أو القدح أو رحم الأنثي وهذا الرمز هو الرمز الأصلي للأنثي ( كما أن الرمز الأصلي للذكر كان ^ وكان يعرف برمز السيف حيث يمثل العنف والرجولة وهو الرمز الذي يستخدم الآن في اللباس العسكري للدلالة علي الرتبة ). ان الأسطورة تخبرنا بأن الكأس المقدسة هي القدح ، لكن وصف الغريل بأنه قدح هو في الحقيقة مصطلح مجازي استخدم ليحمي سر الطبيعة الحقيقي للكأس المقدسة . وهكذا فأن الأسطورة استعارت لفظ القدح أو الكأس للتعبير عن شيء أكثر أهمية من الكأس بكثير .. انه يرمز الي امرأة . ان الغريل أو الكأس بالمعني الحرفي للكلمة هو رمز قديم للأنوثة والكأس المقدسة تمثل المرأة المقدسة والألهة الأنثي .. وقد ضاع هذا المعني الآن بسبب محوه تماما وبشكل عملي علي يد الكنيسة . لقد كانت قوة المرأة وقدرتها علي انتاج الذرية ومنح الحياة في قديم الزمان امرا مقدسا لكنه كان يهدد قيام الكنيسة التي سيطرت عليها السلطة الذكورية . لذا فقد الصقت الصفات الشيطانية بالانثي المقدسة وشوهت سمعتها . ويستمر أبطال الرواية في طرح آراء دان براون بالقول ان الأنسان كان هو الذي اخترع مفهوم الخطيئة الأصلية الأولي حيث أكلت حواء من التفاحة وسببت طرد الجنس البشري من الجنة الي الأرض فأصبحت المرأة التي كانت يوما مانحة الحياة أصبحت اليوم عدو الأنسانية .. " واذا نظرنا الي صورة المسيح –عليه السلام- والمجدلية في اللوحة باعتبارهما عناصر تركيبية لا علي أساس انهما شخصين سنجد انهما يكونان في وسط اللوحة حرف M وهي ترمز الي كلمة ماتريمونيو – زواج أو مريم المجدلية .. لقد كان يسوع يهوديا وكان العرف الأجتماعي في ذلك العصر يحرم تماما علي الرجل اليهودي أن يكون عازبا .. كما ان لفائف البردي التي عثر عليها في واحة حمادي وفي البحر الميت تحدثت عن " رفيقة المخلص " .. وهي مريم المجدلية .. وكانت كلمة رفيقة باللغة الآرامية تعني بوضوح حرفي الزوجة – كما يقول دان براون - ( انظر انجيل فيليب) . وعندما شعر المسيح بأنه سوف يتم القبض عليه قريبا قام بأعطاء مريم المجدلية تعليمات حول كيفية متابعة كنيسته بعد أن يموت ( أي جعلها نائبة له في رعاية شؤون الكنيسة ) ونتيجة لذلك وحيث أن بطرس كان متعصبا للرجال فقد عبر عن استيائه حول قيامه بدور ثانوي لامرأة تحتل البطولة ( انجيل مريم المجدلية) .. وبحسب الأناجيل غير المحرفة - كما يدعي دان براون - لم يكن بطرس هو الحواري الذي أعطاه المسيح تعليمات تتضمن كيفية تأسيس الكنيسة المسيحية بل كانت مريم المجدلية – كان يسوع أول نصير للمرأة كان يريد لمستقبل كنيسته أن يكون بين يدي مريم المجدلية وكان بطرس يعارض ذلك .. وقد عرض دافنشي مشاعر بطرس حيال المجدلية حيث رسم بطرس ينحني بطريقة مخيفة نحو مريم المجدلية واضعا يده الشبيهة بالسيف أمام عنقها كما لو أنه يريد أن يذبحها .. وهي نفس الحركة المرعبة في لوحة سيدة الصخور Madonna of the Rocks بل هناك يد تظهر من بين جماعة الحواريين حول بطرس تحمل خنجرا والأغرب من ذلك أنه لو عددنا الأذرع سنجد أن هذه اليد لا تعود الي أي أحد علي الأطلاق .. انها مفصولة عن الجسد .. يد مجهولة .. كانت المجدلية من عائلة بنيامين من سلالة ملكية وكان المسيح عليه السلام حسب انجيل متي من عائلة داؤود –عليه السلام- وهو سليل الملك سليمان –عليه السلام- ملك اليهود . وبزواجه –كما يقول دان براون- من عائلة بنيامين ذات النفوذ يكون قد وحد بين سلالتين ملكيتين بشكل يتم فيه خلق اتحاد سياسي قوي مع امكانية المطالبة شرعا بالعرش وأعادة سلالة الملوك كما كان الأمر في عهد سليمان –عليه السلام -. ثم يفجر دان براون قنبلته الدرامية فيقول : ان قصة الكأس المقدسة هي قصة الدماء الملكية : فعندما تتحدث قصة الغريل عن الكأس الذي حمل دم المسيح تكون في الحقيقة تتحدث عن المجدلية – الرحم التي حملت سلالة المسيح الملكية .. ومعني هذا أنه كان للمجدلية ابن من المسيح .. انه أكبر سر في تاريخ البشرية جمعاء – لم يكن المسيح متزوجا فحسب بل كان أبا أيضا – كانت مريم المجدلية الوعاء المقدس .. كانت القدح الذي حمل سلالة يسوع المسيح الملكية والرحم الذي حمل ورثة المسيحية والكرمة التي أنتجت الثمرة المقدسة . كما تولت بعد ذلك احدي الراهبات وبمعرفة ومساعدة جمعية سيون السرية حماية ورعاية واخفاء هذه السلالة . ان أسطورة الكأس المقدسة بكاملها هي حول السلالة الملكية وكلمة سانغريال اتت من سان San و غريل Grail أي الكأس المقدسة وقد قسمت الي كلمتين قديما Sang Real وهي تعني حرفيا الدم المقدس .. ان سلالة المسيح الملكية هي أساس أهم اسطورة في التاريخ : اسطورة الكأس المقدسة .. لقد رويت قصة المجدلية مرارا وتكرارا عبر القرون بكل أنواع وأشكال الرموز والاستعارات واللغات – ان قصتها في كل مكان اذا أراد الأنسان أن يفتح عينيه ليراها .... ذلك هو ملخص للأفكار والأساطير والأسرار التي صبغت فترة من تاريخ المسيحية كما يراها دان براون بثها علي لسان أبطال روايتة بذكاء وبراعة مستغلا ومحللا للوحات دافنشي المشهورة والمثيرة للجدل ومقارنا لها مع ما ورد في رسائل وأقوال حواريي وتلاميذ السيد المسيح عليه السلام وفي العهد الجديد والنشاط الفكري والفلسفي العظيم والجدل الطويل الذي غلف نبوءات اليهودية والاسس التاريخية للدين المسيحي .. ولقد تلقف القراء (خاصة في الغرب) هذه الرواية بحماسة شديدة عند صدورها حيث بيع منها في عام واحد 6 ملايين نسخة وبيع منها حتي الان 40 مليون نسخة وترجمت الي جميع اللغات الحية وستخرج كفلم هذا العام .. كما قام بعض الكتاب يعارضون وينتقدون الأسس والمفاهيم التي اعتمد عليها دان براون كما هاجمت مجموعات من الكنائس وكثير من الجماعات المحافظة ادعاءات دان براون لعدم دقة معلوماته عن يسوع المسيح – عليه السلام – واعتماده علي الافتراضات والتحليلات والاساطيركما أصدر صاموئيل اون وير كتابا بعنوان (انجيل دافنشي) وايضا كتاب (تفكيك شفرة دافنشي) حاول فيه الاجابة عن الاسئلة التالية : هل حقا استخدم دافنشي فنه لأيصال معلومات سرية عن القريل المقدس ؟ هل صحيح ان الاناجيل الموجودة لا تحكي بصدق قصة المسيح _عليه السلام _ الحقيقية ؟ هل حقا تزوج المسيح من مريم المجدلية ؟ هل فعلا عين المسيح مريم المجدلية لقيادة حركة المسيحية وليس بطرس ؟ لقد كان لشخوص رواية دان براون اجابات عن هذه الأسئلة ذكروها في ثنايا الرواية وكأنها حقائق مدعمة بأعمال واراء مؤرخين وباحثين ... وقد حاول صاموئيل في كتابه المذكور اعلاه الوصول الي الحقيقة بمراجعة مصادر دان براون ومدي صدقيتها .. وهل ما قاله عن السيد المسيح عليه السلام والمجدلية يستند الي أي مرجع أو دليل تاريخي .. واستخلص من كل ذلك ان هناك من الاخطاء ما يجبر القاريء علي معاملة كتاب دان براون كرواية وليس كمستند للحقائق .... اما المسلمون فيرون ان الله سبحانه وتعالي قد وهب مريم غلاما زكيا يكون نبيا كريما طاهرا مكرما مؤيدا بالمعجزات . قال تعالي :" قال انما انا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا. قالت اني يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا . قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان امرا مقضيا " .. وأنه عبد الله ورسوله . قال تعالي :" قال اني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا " .. وان الله قد رفعه اليه . قال تعالي : " وقولهم انا قتلنا المسيح عيسي ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وان الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم الا اتباع الظن وما قتلوه يقينا . بل رفعه الله اليه وكان الله عزيزا حكيما " ... ... وعلي كل حال فعلي القاريء ان يتعامل بحذر شديد وهو يقدم علي قراءة هذه الرواية .. فالرواية تموج بالخيال والاسرار والاساطير والافتراضات والتحليلات ولكنها قد كتبت ببراعة وذكاء وتشويق واثارة للجدل والاهتمام الذي يذداد يوما بعد يوم .. !!! الدكتور عباس محمد حسن

انقلاب أبريل 1990م ووقائع قصة فشل النسيان في طيها ...

تداعيات لم تنته أثارها بعد انقلاب أبريل 1990م ووقائع قصة فشل النسيان في طيها ... صحيفة السوداني / 10 مايو 2006م المحرر السياسي (المصائب تجمع المصابين) هي الأبلغ في توصيف (تجمع أسر شهداء حركة الخلاص الوطني أبريل 1990م) الذين جمعتهم محنة إعدام أزواجهم أو أبائهم أو اخوانهم أو أقربائهم، دون أن تكون بين تلك الأسر روابط فيما سبق بصورة جماعية، وظل هذا التجمع الأسري عاملاً فاعلاً في كافة المحافل مذكراً كلما حاول الزمان أن يطوي ملف حركة أبريل 1990م بالنسيان بالتذكير من جديد، وهو ربما ما أراد أن يقوله (تجمع الأسر) وهو يقيم ندوته بدار حزب الأمة في الأسبوع الماضي (بأن قضيتنا لم يحن أوان إغلاقها بعد). مواقف سياسية في دعم الانتفاضة العميد (م) عبد العزيز خالد (أبو خالد) رئيس المكتب التنفيذي للتحالف الوطني السوداني وعضو تنظيم (الضباط الأحرار) – تنظيم كان يرأسه الفريق فتحي أحمد علي قبل الانتفاضة وضم عدد من الضباط أصحاب التوجهات القومية والديمقراطية وكان يهدف لاسقاط نظام مايو-كشف عن مقابلته أثناء اشتعال انتفاضة أبريل بكل من خالد الزين وبلول من تنظيم (تجمع الشعب السوداني) –وكان تنظيم التجمع محسوب علي البعثيين- وطرح عليهم شعار (وحدة وتماسك القوات المسلحة) ولعب (التجمع) دوراً مهماً في إنجاح الانتفاضة وحمايتها بالإضافة إلى تنظيم (الضباط الأحرار) فيما كان التنظيم الوحيد الذي كان دوره سلبياً في الانتفاضة هو تنظيم الضباط الإسلاميين. وأضاف أبو خالد أن أول مجموعة من الضباط تم تصفيتها هي مجموعة خالد الزين وبلول والتي أسميت (مجزرة الانتفاضة) بأحالة أكثر من عشرين ضابطاً من الذين كان لهم أكبر الأثر في إنجاح الانتفاضة. حيث تم تقسيم الضباط إلي ثلاث مجموعات هي (أ) فصل من الخدمة، (ب) نقل خارج العاصمة، (ج) وضع تحت الرقابة !!! وتم تحويل ضابطان من الفئة (أ) إلى الفئة (ب) أولهما العميد محمد عثمان كرار وثانيهما العقيد عبد العزيز خالد. أبرز الضباط الذين شملهم قرار الفصل هم اللواء عثمان إدريس بلول والعقيد محمد أحمد قاسم –أعيد إلي الخدمة في يناير 1989م وأحيل للمعاش في الأول من يوليو 1989م- والرائد سيف الدين أحمد عبيد وهو خريج الدفعة (24) وأحيل للتقاعد لاتهامه بالانتماء لحزب البعث، وتمكن من مغادرة السودان بعد فشل حركة رمضان 1990م وأستقر بالعراق. الوقوف علي أبواب (الموت) في حالة الفشل العقيد (م) محمد خير باشاب الذي حكم عليه بالتجريد والطرد من الخدمة بعد فشل حركة رمضان قال أن ضباط الحركة أداروا حواراً داخلياً عميقاً حول جدوى مقاومة الانقلاب بانقلاب عسكري والبديل في حالة نجاح التغيير وتوصل الجميع لقناعة رئيسية مفادها أن الأحزاب السياسية هي حقيقة موجودة، لكنها ناقصة النمو بسبب الهجمات التي تتعرض لها بسبب الانقلابات مما يعطل مسيرة تطورها. ولذلك فإن الترتيبات المستقبلية في حالة نجاح المحاولة تكوين مجلس عسكري مكون من رتبة العميد فما فوق ولا يشترط مشاركتهم في التنفيذ، أشار أن هذا الموقف كشف زهد أعضاء الحركة في السلطة حيث كان معظم المنفذين من الرتب الوسيطة ما بين العقيد وحتى النقيب مما يجعلهم خارج دائرة السلطة والمجلس العسكري، وهو موقف يكشف تجرد وزهد ضباط الحركة في المناصب والسلطة. وبالإضافة للمجلس العسكري فكان من المقرر تكوين حكومة قومية مكونة من الأحزاب السياسية والنقابات والحركة الشعبية لتحرير السودان إذا وافقت علي مبدأ المشاركة في السلطة ومن ثم يتم تنظيم انتخابات عامة لانتخاب الحكومة ومؤسساتها المختلفة. أما المصير في حالة فشل الحركة فقد توصل أعضاء الحركة في اجتماعاتهم أن مصيرهم في حالة فشل تحركهم سيكون ( الاعدام ) و( الموت ) وعلي الرغم من ذلك مضوا قدماً في تنفيذ حركتهم. إنذار (مارس) ومفاجأة (أبريل) في الخامس عشر من مارس 1990م تم إعتقال أحد عشر ضابطاً وخلال أربعة أيام فقط بلغ عدد المعتقلين أربعة وثلاثين ضابطاً وبعد التحقيقات الأولية تم اعتقال عدد من قيادات حزب الأمة حيث نجحت الأجهزة الأمنية في احباط تحرك عسكري كان من المقرر تنفيذه يوم 28 مارس 1990م في تمام الساعة السادسة مساء وهو الذي يصادف اليوم الأول من رمضان لتوظيف اليوم الأول في رمضان ولصعوبة حشد الكوادر والموالين في تلك الظروف مما يسهل نجاح التحرك العسكري. العميد عصام الدين ميرغني طه (أبوغسان) أشار في كتابه (الجيش السوداني والسياسة) أن المجموعة المنفذة لتحرك مارس حملت اسم (مارس 90) بقيادة اللواء ركن محمد علي حامد (أبو العوض) قد تم اختراقها في سلاح المهندسين عن طريق الرائد (هـ. ب) الذي أرسل معلومات دقيقة ومستمرة عن التحرك المتوقع من سلاح المهندسين ومعرفة التاريخ المتوقع للتنفيذ. وفي السابع عشر من أبريل 1990م تم اعتقال كل من اللواء عثمان إدريس بلول والعقيد محمد أحمد قاسم لوجود معلومات عن نشاطهم في إجراء اتصالات مع ضباط عديدين وقيامهما بترحكات نشطة ومريبة. تلك المعطيات كانت تشير أن أمراً كان يحدث داخل القوات المسلحة وأن سحبها تنذر بشئ ما... في صيف مارس وبعيداً عن أجواء الخرطوم الساخنة عقد أجتماع سري بمدينة لندن بين كل من المقدم (م) عبد المنعم كرار ورئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان الراحل دكتور جون قرنق بتكليف من قيادة حركة الخلاص الوطني التي دبرت ونفذت تحرك أبريل 1990م وتناول الاجتماع شرحاً لأهداف تحرك الضباط لتغيير الوضع القائم. دكتور قرنق أعلن بعد إطلاعه علي أهداف الحركة أن الحركة الشعبية وفي حال نجاح التغيير فستبادر فوراً بإعلان وقف فوري لإطلاق النار في كافة الجبهات. في الثامنة من مساء يوم الأحد 22 أبريل 1990م وصل رقيب من سلاح المظلات إلي مكتب ضابط الاستخبارات في قيادة سلاح المظلات، وافاد الرقيب بأن لديه معلومات خطيرة عن إنقلاب سيتم في تلك الليلة، ورفض الإدلاء بأي معلومات إضافية إلا بحضور العميد كمال علي مختار نائب مدير الإستخبارات العسكرية حيث تم اللقاء معه بعد الساعة الثامنة والنصف بإدارة الإستخبارات العسكرية بالقيادة العامة وأستمر التحقيق مع الرقيب حتي الساعة الحادية عشر مساء. وأورد أبو غسان في كتابه أن التحقيق مع الرقيب المذكور توصل إلي أن هناك إنقلاب عسكري سيتم تنفيذه في ذات الليلة وأن معظم الوحدات العسكرية العاملة في منطقة الخرطوم ستشارك فيه بالإضافة لمشاركة وحدات من شرطة الإحتياطي المركزي، الاسم الحركي للعملية هو (الخلاص) وكلمة السر هي (هدية رمضان) أما واجب الرقيب فكان مقابلة المقدم (م) عبد المنعم كرار امام بوابة الدخول الرئيسية لمعسكر القوات الخاصة وذلك بعد منتصف الليل وقيادته للقوات الخاصة بعد دخوله للمعسكر. ويضيف أبوغسان أنه في الثالثة من صباح الأثنين 23 أبريل تم إعتقال المقدم كرار والمقدم محمد عبد العزيز اللذين كانا يتأهبان لدخول المعسكر وهو ما أكد أن المعلومات التي أدلي بها الرقيب باتت صحيحة. وبعد الساعة الثالثة وبالبوابة الجنوبية الشرقية للقيادة العامة تم إلقاء القبض علي رئيس شعبة عمليات وتدريب سلاح المظلات العقيد ركن عصمت ميرغني طه. وفي حوالي الساعة الرابعة دخلت مدرعة من اتجاه مطار الخرطوم يقودها المقدم بشير الطيب وعند وصوله للبوابة الرئيسية وجد الرائد –حينها- ابراهيم شمس الدين واشتبكا بالأيدي وأطلق الحرس الشحصي لشمس الدين النار علي بشير الطيب وأصابه في كتفه وتم اعتقاله والتحفظ عليه داخل القيادة العامة. أما الموقف في الساعة الرابعة صباحاً في منطقة الخرطوم العسكرية فكانت القيادة العامة تحت سيطرة قوات الحكومة بعدد أربع دبابات وما لايزيد علي مائتي جندي، وسيطرت المجموعة الداعمة للتحرك العسكري علي مطار الخرطوم منذ الساعة الثالثة صباحاً بواسطة سرية الدفاع الجوي التي يقودها المقدم سيد حسن عبد الرحيم وأمر العميد طيار محمد عثمان كرار بإلغاء السفريات الجوية وتفريغ المطار من كل المسافرين والعاملين في وظائف هامشية، كما سيطر اللواء حسن الكدرو علي منطقة الشجرة منذ الثالثة صباحاً وجهز الضباط الداعمين للحركة ما يقارب الثمانية عشر دبابة ومدرعة للتحرك. فيما بقيت القاعدة الجوية بالخرطوم دون سيطرة من قبل الطرفين. أما وحدات الشرطة والإحتياطي المركزي فقد أجهض تحركهم بعد إصدار وزير الداخلية العميد فيصل أبو صالح أوامره بعد اكتشاف وجود تحرك عسكري بحظر تحركات الوحدات أو العربات التابعة للشرطة وصدرت أوامر بعودة جميع سيارات النجدة المجهزة بأجهزة الاتصالات الجيدة إلي وزارة الداخلية حيث احتجزت حتي صباح اليوم التالي. وطبقاً لافادة أبو غسان فقد اتضح لاحقاً أن هتاك وحدات من الشرطة كانت مشاركة في التحرك ومنها فصيلة من الاحتياطي المركزي المتمركز في طريق الخرطوم / جبال الأولياء. أما الجسور الرئيسية التي تربط العاصمة القومية فقد سيطرت عليها القوات الموالية للتحرك حيث قام المقدم بشير أبو ديك بتغيير أطقم الدبابات المرابطة في كوبري النيل الأبيض بأطقم موالية للحركة، فيما قامت قوة من سلاح النقل ببحري بقيادة الرائد صلاح الدين الدرديري بالسيطرة علي كوبري النيل الأزرق، فيما قامت فصيلة ثانية من سلاح النقل بالسيطرة علي كوبري كوبر. أما كوبري شمبات فتمت السيطرة عليه بواسطة وحدة من المظلات بقيادة النقيب عصام مصطفي حيث تم اعتقال أطقم الدبابتين وتأمينه بقوة إضافية من اللواء المنقول جواً بشمبات والتي كانت تحت قيادة العقيد ركن صلاح السيد. أما الوضع في منطقة الخرطوم بحري العسكرية فقد سيطرت القوات الموالية للمحاولة عليها بصورة كاملة وتمكنت قواتها من إغلاق مداخل المنطقة (الحاج يوسف- الحلفاية والجسور) وسيطرت علي معسكر شمبات (مقر اللواء المنقول جواً) بقيادة العقيد صلاح السيد وبقوة تقدر بأكثر من خمسمائة جندي وفي الرابعة صباحاً تحركت فصيلة مشاة لدعم قوات الحركة بالإذاعة لكن عند وصول تلك القوة إلي منطقة حي الملازمين عند شارع النيل سمعت صوت إطلاق أعيرة نارية آتية من اتجاه الإذاعة –اتضح لاحقاً أن إطلاق النار الذي تم في ذلك الوقت كان في سجن أمدرمان العمومي المجاور للإذاعة عندما حاول أحد السجناء الهروب فأطلق الحرس النار عليه- القوة توقفت وحاولت الاتصال بقيادة التحرك، ولكن لم تكن هناك أي استجابة حيث كانت الأجهزة معطلة عن العمل فعادت أدراجها إلي كبري شمبات ولم تنفذ مهمتها. أما معسكرا النقل والإشارة فقد سيطرت عليهما قوات الحركة بقيادة الرائد صلاح الدين الدرديري منذ الساعة الثالثة صباحاً والسيطرة علي الجسور بالمنطقة وإيقاف شبكة الإتصالات المؤمنة الخاصة بالقوات المسلحة. أما في منطقة أمدرمان العسكرية فقد بدأ الرائد بابكر عبد الرحمن نقد الله في لواء المدفعية تجهيز وحدة راجمات صواريخ لدعم التحرك، وعند الرابعة وصل قائد اللواء العميد مأمون عبد العزيز بعد أن صدرت له أوامر من القيادة العامة لتأمين وحدته وتم اعتقال نقد الله، أما في منطقة الهيئة القومية للإذاعة والتلفزيون فقد قامت القوة المكلفة بحراسة وتأمين المنطقة بإنقلاب داخلي وتمكن رقيب أول تابع لسلاح المدرعات من إعتقال ضابطين من سلاحي المهندسين والمدرعات وقام بمعاونة ثلاثة رقباء من المدرعات بتوزيع القوات وتأمين مبني الإذاعة والتلفزيون، وظلت تلك القوة في انتظار التعزيزات المكونة من دبابتبن وفصيلة من مظلات شمبات حيث لم تصل القوات أو من سيقوم بإذاعة البيان، وفي السادسة صباحاً أعادت مجموعات عسكرية تابعة للحكومة سيطرتها علي منطقة الإذاعة. أما منطقتي سلاح المهندسين ومعسكر الدفاع الجوي فلم يكن فيهما أي تحرك من الجانبين. وحول الوضع في منطقة كرري ووادي سيدنا يقول أبوغسان أن مدرسة المشاة بكرري كانت تقف فيها ثلاثة دبابات من طرز ( تي 55) مكتملة التجهيز مشاركة في تحرك الخلاص لكنها لم تتلق أي أوامر بالتحرك عبر جهاز الإتصال ولم يصلها الضابط المعين لقيادة القوات بعد احتجازه أمام البوابة الرئيسية للكلية الحربية بواسطة العناصر التي حركها العقيد –انذاك- عبد الرحيم محمد حسين وأغلقت طريق وادي سيدنا، أما في معهد المدرعات فكان التكليف المسند لضابط الحركة فيهما هو انتظار وصول قائد القوات –الذي احتجز أمام بوابة الكلية الحربية- والتوجه لمعهد المشاة لإطلاق سراح ضباط حركة مارس 1990م المعتقلين بثكنات المعهد ومن ثم تجميع قوة المشاة والدبابات الموجودة في منطقة كرري ودفعها لترابط في منطقة خور عمر لتكون احتياطي ضارب للحركة ودعم منطقة الهيئة القومية للإذاعة والتلفزيون إذا تطلب الموقف أما في قيادة اللواء المنقول جواً في كرري فقد تمكن نائب قائد اللواء العقيد الشيخ من ايقاف تحرك الضباط الموالين للحركة، أما الكلية الحربية فمن الواضح أنها كانت خارج خطة الحركة. ومع نسمات فجر يوم الأثنين 23 أبريل كان واضحاً أن حركة الخلاص تسير في اتجاه الفشل وأن قواتها تعمل في اتجاهات متفرقة دون قيادة أو سيطرة أو اتصالات ولم يتبق لها سوي الفرقة المدرعة بالشجرة التي كانت لا تزال متمسكة بمواقعها وتهدد بالتحرك في أي لحظة ولكن في منتصف نهار يوم الأثنين أستسلمت أخر قوات الحركة بالمدرعات بعد أن سيطرت قيادة المدرعات منذ منتصف ليلة الأحد وكان علي رأس تلك القوة قائدها اللواء حسين الكدرو بعد حصوله علي ضمانات من المشير عبد الرحمن سوار الذهب بتحقيق عادل وإزالة المسببات التي قادت (للتمرد)، وشدد الذهب علي حصوله علي تعهد من القيادة العامة بإجراء تحقيق عادل ومحاكمة عادلة ... وعند الساعة الثانية عشر من ظهيرة يوم الأثنين 22 أبريل كانت حركة الخلاص الوطني قد بلغت منتهاها وأسدل الستار علي محاولتها تغيير النظام الذي لم تمض سوي عشرة أشهر منذ أن سيطر علي مقاليد الحكم ... أما فجر الثلاثاء 24 أبريل 1990م فقد شهد اسدال الستار علي حركة الخلاص الوطني التي عرفت (بإنقلاب رمضان) حينما أعدم قادة الحركة رمياً بالرصاص ودفنوا جميعاً في حفرة واحدة ....!!!؟؟ هل كان تحرك أبريل 1990م عمل عسكري حزبي ؟ ربما تمثل الهوية السياسية لحركة أبريل 1990م سراً غامضاً حيث تصنف لدي البعض بإعتبارها تحرك عسكري (بعثي) وربما يعود ذلك لوجود بعض المحسوبين لحزب البعث في الحركة، ويقول عبد العزيز خالد (أبو خالد) رئيس المكتب التنفيذي للتحالف الوطني السوداني (بالتأكيد كان ضمن المجموعة التي نفذت انقلاب رمضان بعض البعثيين، وهذا ينفي بأن كلهم كانوا بعثيين) ويقر العقيد (م) محمد خير باشاب أن لبعض المشاركين بالحركة ميول سياسية إلا أن التوجه العام للحركة كان قومياً ولم يكن حزبياً أو جهوياً وأضاف (إن الذين يزعمون أن الحركة قام بها حزب البعث أو الحزب الشيوعي أو غيرهم من الأحزاب، أو أولئك الذين يصفونها بأنها انقلاب جهوي ( للشايقية ) فهم يغالطون التاريخ والوقائع، ومع احترامي للأحزاب السياسية دون إستثناء فتلك الحركة كانت ذات توجهات قومية وليست حزبية نفذها عدد من خيرة ضباط قوات الشعب المسلحة بصورة قومية ووطنية). ويقول العميد (م) عصام ميرغني طه (أبوغسان) أن تحرك أبريل 1990م هو تحرك سياسي عسكري عريض من الضباط الوطنيين الذين جمع بينهم هدف رفض دكتاتورية (الجبهة الإسلامية) ووحد بينهم انتماؤهم القومي لوطن يؤمنون فيه بالعدالة والمساواة والديمقراطية الحقيقية وأضاف (إن سعي النظام لتلوين تلك الحركة بالافتراء والكذب قد نجد له العذر، إذ يحاول تبرير فعلته النكراء بإعدام أولئك الضباط الأبرار الشرفاء، لكننا لا نجد العذر أو المصداقية في محاولة أي حزب أو تيار سياسي إدعاء حقيقة لا يعرفها، وشرف لا يعقل أن يدعيه).

التجديد الذي يريده الترابي هدم للأصول وعبث بالفروع 2

التجديد الذي يريده الترابي هدم للأصول وعبث بالفروع 2 10-5-2006 مما يحير الإسلاميين في السودان أن الإسلاميين في الخارج لم يستوعبوا ما يقولونه لهم عن انحرافات الترابي، لأن الكثيرين منهم ينظرون إلى الجانب السياسي في شخصية الترابي، ويعرضون عن "آرائه الفكرية الشاذة التي ظل يرددها منذ زمن بعيد بصيغ مختلفة، بل بعضهم لم يسمع بها أصلا"،
بقلم محمد المهدي ولد محمد البشير في يوم السبت 22/4/2006م كان الدكتور حسن الترابي، يلقي محاضرة في جامعة الخرطوم، ينتزع بها إعجاب اليساريين والعلمانيين، وعلى بعد أمتار منه كان علماء السودان ودعاتها يعلنون في مؤتمر صحفي، كفر الترابي وردته، وهو أمر لا أريد أن أثبته أو أنفيه. ولكنني أريد أن أطلع أبناء المسلين الغيورين على دينهم، وشباب التيار الإسلامي الذين يريدون الحق وإليه يسعون، على أقوال الترابي موثقة، أما من لا يسلمون بقدسية الأحكام القطعية، ولا بوجود ثوابت شرعية، فإني أعتذر إليهم مسبقا. ما هي الأقوال التي أثارت حفيظة فقهاء الشريعة الإسلامية من المغرب إلى الحجاز، وساقت إلى الدكتور حسن الترابي من جديد نوعا من الإمامة الفكرية، والكلام لأحمد إسماعيل في مقال له بعنوان جدل حول الترابي، لكنها ليست في الوسط الإسلامي كما كان في السابق، بل في أوساط العلمانيين، ففي الوسط الإسلامي لم يتصدى أحد، عدا أفراد من حزبه، للدفاع عنه، في الوقت الذي تكتلت فيه ثمانون شخصية علمانية وليبرالية للدفاع عنه، وجعل العلمانيين والتغريبيين يرحبون بأفكار الترابي، ويعتبرونها تحررية تجديدية، وأنها مفتاح للانطلاق من الجمود"، كما نقل عنهم زياد أحمد سلامة في مقاله له بعنوان "المشروع النهضوي عند الترابي". * من هو المعنيون بالتجديد الذي يدعو إليه الدكتور حسن ترابي؟ يقول الدكتور عبد الوهاب الأفندي، في صحيفة الصحيفة 25-4-2006، في مقال بعنوان "عن الشيخ الترابي وأزمة الحركة الإسلامية المعاصرة"، الإشكال في منهج الترابي هو أنه واجه رفضاً من التقليديين، دون أن يجد القبول عند الحداثيين والعلمانيين، فالحداثيون لا يقبلون بما هو دون الحل الجمهوري من تخلص بالجملة من الموروث الإسلامي الفقهي، أو على الأقل يدعون لما يسميه الدكتور محمد أركون بـ"نقد العقل الإسلامي"، أي عملية تفكيك تحلل الموروث الإسلامي من الخارج، وتحكم عليه بأنه كان أسير واقع تاريخي معين، لا بقاء له خارجه، وبالمقابل فإن التقليديين يرفضون اجتهادات الترابي جملة وتفصيلاً، كما يرفضون منهجه"، وبين يدي الآن كتابان للدكتور محمد أركون، أحدهما بعنوان "الفكر الأصولي واستحالة التأصيل نحو تاريخ آخر للفكر الإسلامي" صدر بتاريخ 1999، والثاني بعنوان "أين هو الفكر الإسلامي المعاصر" صادر في بداية الثمانينات، وقد وجدت أن الترابي يستقي فكره من محمد أركون، أن بين الرجلين كثيرا من التقارب في الرؤى والأهداف، يصل أحيانا إلى درجة "التطابق" في الموقف من الدين، وتفسير صيرورته التاريخية، ومسار تطوره، وحتى في المصطلحات. يقول الأستاذ صلاح الدين الجورشي، وهو كاتب تونسي إسلامي يساري، اشترك مع الدكتور الترابي وآخرين في إصدار كتاب بعنوان "مستقبل الحركة الإسلامية أوراق في النقد الذاتي"، في وصفه لما يريده الترابي ويسعى إليه، في مقاله المنشور بالحياة اللندنية بعنوان: "وقفة بين الترابي السياسي والترابي المثقف"، حيث يقول: "وما دعوة الترابي إلى تجاوز علم أصول الفقه، سوى مدخل لتغيير منهج فهم الدين، ووضع أهداف وأولويات جديدة، حتى يبقى المؤمن مشدوداً إلى الأمام، في سعيه نحو نموذج في حالة تجدد مستمر، بدل أن يكون عنقه ملتويا إلى الخلف، باحثا عن إسلام مغروس في الماضي، بقضاياه وملابساته وهمومه". هذا الكلام لم يقله شانئ للترابي، وإنما حبرته يراع معجب به منافح عنه، يبشر بمعالم هذا التجديد المزعوم، الذي يتجاوز الماضي ويلغيه، وينفتح فيه النص الشرعي أمام عملية إعادة تأويل تتسع مع الزمن باطراد، يجعل النص الواحد يلغي نفسه ألف مرة. وكتب الدكتور عبد الوهاب أفندي بحثا متخصصا عن الدكتور حسن الترابي بعنوان: "حسن الترابي ومحدودية الحركة الإسلامية الإصلاحية الحديثة"، في كتاب عن الفكر الإسلامي المعاصر، يصدر هذا الشهر عن دار بلاكويل في أكسفورد، يتناول الكتاب —والكلام لأفندي- الذي ساهم في إعداده لفيف من الأكاديميين والمفكرين من مختلف أنحاء العالم جوانب متعددة من الفكر الإسلامي المعاصر، ومساهمات أبرز الشخصيات المعاصرة فيه: الترابي له مذهب ظاهر وآخر باطن، يقرر الدكتور عبد الوهاب أن الدكتور حسن الترابي لا يقول جميع آرائه الفقهية علنا، وهذا نص كلامه: "كان للشيخ الترابي حلقة داخلية صغيرة من الأنصار يخاطبها بصريح آرائه الفقهية، بينما كان يدخر خطاباً آخر لـ"عوام الخلق"، وقد نتجت عن هذا الوضع عدة نتائج، أولها بروز عقلية "صفوية" بين أعضاء هذه الحلقة الداخلية، تشبه إلى حد كبير ما انتقد الإمام أبو حامد الغزالي عن فلاسفة عصره، الذين كانوا يعتقدون التميز عن الأقران بفهم خاص للأمور يرتفع كثيراً عن فهم العامة. وأخذ يسود وسط هذه الصفوة المدعاة استخفاف كبير ببقية المسلمين وفهمهم للدين، بل وبكثير من تعاليم الدين" وهذه الحقيقة التي قاله كاتب محايد، يشهد لها ما قاله الدكتور جعفر شيخ إدريس، الذي كان الترابي يتبع له عند انخراطه في تنظيم الإخوان المسلمين، في مقابلة أجرتها معه مجلة العصر الالكترونية، "هذا الترابي رجل (......) يقول في جلساته الخاصة خلاف ما يعلنه للناس ولا يزال حتى اليوم، وما كان يقوله في جلساته آنذاك أقل بكثير مما يقوله الآن"، وقد ذكر هذه المسألة أيضا الشيخ الأمين الحاج، وقال بأن الترابي صرح لصحفي فرنسي اسمه "ألان شيفاليرييه"، بأنه يستخدم "التقية" لإخفاء النيات والعقائد، باعتبارها وسيلة سياسية مشروعة. وإذا كان ما يكتمه الترابي من آراء أكثر شذوذا مما أعلنه، فتلك مصيبة عظمى * هل يقرأ الإسلاميون ما يكتبه الترابي؟ هناك مسألة أخطر من هذا كله، كشف عنها حسن عبد الحميد في مقال له بعنوان: "صعود وسقوط الترابي..قراءة في مسيرة مثيرة للجدل"، حيث قال بأنه مما يحير الإسلاميين في السودان أن الإسلاميين في الخارج لم يستوعبوا ما يقولونه لهم عن انحرافات الترابي، لأن الكثيرين منهم ينظرون إلى الجانب السياسي في شخصية الترابي، ويعرضون عن "آرائه الفكرية الشاذة التي ظل يرددها منذ زمن بعيد بصيغ مختلفة، بل بعضهم لم يسمع بها أصلا"، ويمثل على ذلك بأنه عندما التقى بالقاضي حسين —أمير الجماعة الإسلامية في باكستان—: "سألناه هل قرأت كتب الترابي؟ أجاب الشيخ قاضي حسين: كلا، ولكني أُحسن الظن به". * حقيقة يحسن الاعتراف بها: كان كاتب هذه الأسطر يقرأ كتب الترابي ومقالاته بعين المريد الذي يجسد مقولة: المريد بين يدي شيخه كالميت بين يدي غاسله، ولا يرى إلا نصف الحقيقة، وكنت مفتونا بالدكتور حسن الترابي وأعده —عن جهل وتقليد أو حسن ظن- إماما من أئمة الهدى، وأحد المجددين في الفكر الإسلامي الحديث، وتلك منقبة تعد للتيار الإسلامي في موريتانيا، الذي كانت نوافذه وأبوابه مفتوحة، تدخل منها أراء المدارس الفكرية الإسلامية بدون استثناء، وعلى الرغم من أن ابتعادي عن التيار الإسلامي "المؤسسة" وابتعادها عني، قد أتاح لي أن أقوم بمراجعة نقدية ذاتية، لكثير من أفكاري وتصوراتي، وحتى تقليدي لبعض رموز التيار لإسلامي، وسمح لي بالانفتاح على رموز من التيار اليساري والعلماني، ومفكرين غربيين، بيد أن شخصية الدكتور حسن الترابي ظلت تطاردني، حيثما حللت، ولما سمعته يستهزئ في محاضرته الأخيرة بأحكام شرعية قطعية الثبوت، قطعية الدلالة، ويقول عنها بأنها "مجرد أقاويل وتخرصات وأوهام وتضليل"، تغيرت صورته في ذهني، وطفقت أسأل نفسي: هل أنا من أتباع محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام، أم من أتباع الدكتور حسن عبد الله الترابي. عندها بدأت أبحث في أقواله، بفكر الناقد، لا بعين المريد، فاتضح لي بجلاء أن المشروع الفكري الذي يبشر به الدكتور حسن الترابي، يستتبع هدم الإسلام من أساسه، وإقامة إسلام جديد مقامه. معالم المشروع التجديدي الذي يبشر به الدكتور حسن الترابي: 1ـ تغيير مناهج التعامل مع النصوص قبولا وردا، وفهما واستنباطا. 2 — توسيع دائرة الاجتهاد ليشمل المجمع عليه بين المسلمين اعتقادا وتشريعا. 3ـ القول بأن من حق العوام الاجتهاد في أمور الدين. 4ـ إباحة ما تضافرت أدلة الكتاب والسنة وإجماع المسلمين على تحريمه كالخمر. 5 — إيجاب ما تضافرت أدلة الكتاب والسنة وإجماع المسلمين على عدم وجوبه كالجهاد على المرأة من حيث الأصل. * نماذج من تجديد الترابي: — موقفه من عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام: ينفي الدكتور الترابي العصمة عن النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء، حيث يقول عن النبي: "ده شخص راق لكن ما تقولوا: معصوم ما يعمل حاجة غلط"، ويضيف بأن النبي "يقول أخبار تطلع غلط"، ويصرح "هسع كلمة العصمة دي، الصحابة كانوا بيعرفوها، هسع لو جابوا الصحابة كلهم قعدوهم بيعرفوا عصمة النبي؟ وما عصمة النبي؟ يقولوا لهم النبي كذاب. يقولوا: كلا حاشا ما نبي كذاب، لكن ما بيعرفوا كلمة العصمة، دي كلمة عملوها المتكلمين". ويضيف في صراحة لا مواربة فيها "الرسول بشر مثلنا يوحى إليه ماحَيْفَسر القرآن لهذا اليوم، لأنه لا يعرف هذا اليوم"، وقال عن إبراهيم عليه السلام "كان شاكاً في ربه عابداً للكواكب قبل البعثة"، وقال بأن يونس عليه السلام "غاضب ربه وظن أنه لن يقدر عليه"، وقال عن موسى عليه السلام "اعترف بجريمته"، محاضرة ألقاها الترابي بجامعة الخرطوم في 30/4/1995. وسخر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث يقول في حديث الذبابة" "في الأمور العلمية يمكن أن آخذ برأي الكافر، وأترك رأي النبي، ولا أجد في ذلك حرجاً البتة، ولا أسأل فيه أيضاً عالم الدين". قال ذلك في محاضرة له بجامعة الخرطوم بتاريخ 12/8/1982. ـ الطعن في الصحابة واتهامهم بالكذب وإتباع الهوى في رواية الحديث، لهذا فإنه يرى أن المنهج الأسلم للتعامل مع ما رووه عن النبي صلى الله عليه وسلم، هو "إذا رأينا نأخذ كل الصحابة أو لا نأخذ، قد نجيء بعمل تنقيح جديد. نقول الصحابي إذا روى حديثاً عنده فيه مصلحة نتحفظ فيه، نعمل روايته درجة ضعيفة جداً. وإذا روى حديثاً ما عنده فيه مصلحة نأخذ حديثه بقوة أكثر ويمكن تصنيف الصحابة مستويات معينة في صدق الرواية". محاضرة بجامعة الخرطوم (في 3/4/1995). ومعنى هذا أن أصل الدين الإسلامي مشكوك فيه، فالنبي صلى الله عليه وسلم غير معصوم، والصحابة يروون الأحاديث تبعا لمصالحهم، وهو ما يؤدي حتما إلى تكذيب قوله تعالى { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}، لأن السنة بيان للقرآن، ولو لم يحفظها الله تعالى لضاع القرآن والدين، فحفظ المبين يقتضي حفظ بيانه، وإذا كانت السنة كلها مثار شك، فمن أين يأخذ المسلمون أحكام دينهم؟ — الطعن في كتب الصحاح، حيث يقول عن صحيح البخاري: "لازم لمن تجي تقوم تمتحن ضوابطه [أي البخاري] لمن تجي وأنت مؤتمن البخاري.. المسلمين.. آه.. آه.. آه خلاص ما في شيء.. من وثقه فهو كذا.. ومن جرحه فهو مجروح.. ومن عدله فهو عدل.. كل الصحابة عدول ليه؟ ما شرط يشترط ذلك في كثير أو قليل. يمكن لنا اليوم عندنا وسائل كثيرة جداً، البخاري ما كان يعرفها"!!. يتواصل.

التجديد الذي يريده الترابي: إلغاء للأصول وإنكار للفروع ـ1ـ

التجديد الذي يريده الترابي: إلغاء للأصول وإنكار للفروع ـ1ـ 06-5-2006 مفهوم التجديد عند الدكتور حسن الترابي، لا يختلف عن مفهوم التجديد في الفكر الغربي، إلغاء للماضي وتجاوز له، وتمرد على سلطان النص، وعدم الاعتراف بأي مرجعية أسمى من العقل، أو التسليم بوجود منهج أعلى يرسم للعقل طريقة تعامله مع النص، قبولا وردا، وفهما واستنباطا، وهذا أمر قد يغيب على من لم يسعفهم الحظ للاضطلاع على الفكر الغربي ومدارسه
بقلم محمد المهدي ولد محمد البشير
مفهوم التجديد عند الدكتور حسن الترابي، لا يختلف عن مفهوم التجديد في الفكر الغربي، إلغاء للماضي وتجاوز له، وتمرد على سلطان النص، وعدم الاعتراف بأي مرجعية أسمى من العقل، أو التسليم بوجود منهج أعلى يرسم للعقل طريقة تعامله مع النص، قبولا وردا، وفهما واستنباطا، وهذا أمر قد يغيب على من لم يسعفهم الحظ للاضطلاع على الفكر الغربي ومدارسه، يقول بسام ناصر: "الترابي حينما يدعو إلى تجديد أصول الفقه، لا يمارس ذلك من داخل النسق الأصولي ذاته، ولا يتعاطاه بأدوات الأصوليين وآلياتهم، بل أفكاره تقوم على مبدأ التقويض والنقض، فهو يريد أن يتحرر من طريقة الأصوليين ومنهجيتهم، ويروم أن يضع أصولاً تتفق مع رؤاه واجتهاداته"، وهذا ما عبر عنه الترابي بصريح العبارة، حيث يقول: " لابد أن تتغير النظرة إلى الأصول، وإذا كانت الأصول الإغريقية في المنطق قد تغيرت كثيراً وقد كملتها أصول في المنهج العلمي الطبيعي والمنهج الاجتماعي، فعلى المسلمين أن يستعينوا بهذا ليسخروها في عبادة الله في مسائل الاجتهاد"، مجلة المجتمع الكويتية، العدد: 573، وهو ما جعل زياد أحمد سلامة يقول عن مشروع الترابي النهضوي، إنه يقوم على "إعادة صياغة الإسلام وتكييفه حسب العادات والأعراف، والسمات الخاصة بكل شعب، بحيث يصبح الإسلام نسخاً متباينة، حسب طبيعة هذه الشعوب، مع الاحتفاظ بالقاسم المشترك، الذي يوحد المسلمين، فنصبح بإزاء إسلام سوداني، وآخر مصري، وثالث أوروبي وهكذا". وقد عبر الترابي عن هذه الفكرة في كتابه قضايا التجديد، حيث يقول: "ليس في تصريف الشرع ما ينكر، فالخطاب الشرعي لم يكن خطاب عين إلا لمن عناهم ذاتا، فلا يلي خلفهم بنصه ولفظه المباشر"، ويقول عن الإسلام مؤكدا هذا المعنى "بل جاءت شريعته -وهي دليل التدين الإسلامي- تحمل قابلية التجديد في طبيعتها ونصها، وأوصى رسولها علماء الأمة أن يكونوا لها كما كان بنو إسرائيل للشريعة الموسوية". لهذا فإن "الرابطة الشرعية للعلماء والدعاة بالسودان" لم تجانب الصواب عندما قالت في خاتمة "الكتيب" الذي أصدرته بشأن الترابي بالحرف الواحد: "لقد كان خلاف الترابي طوال العقود السابقة مع العلماء حول أصول الدين والاعتقاد، وليس حول أمور قابلة للاجتهاد، وفق ضوابط الاجتهاد الشرعي"، وهو ما أكده الشيخ محمد سرور زين العابدين -في دراسته الرائعة السودان بين الشيخ ومريديه- حيث يقول: "لم يكن الخلاف بين الترابي والإخوان حول اختلاف في وجهات النظر السياسية والتنظيمية، وإنما كان فيما هو أعمق من ذلك .. في الدين والعقيدة"، ويضيف بأن الدكتور مالك بدري وهو أحد قادة الإخوان المسلمين في السودان، طلب من الجماعة ألا تحسم خلافها مع الترابي الذي كان محتدما، حتى يخرج الترابي من السجن، لعله يكون قد غير فكره، وبعد خروجه من السجن بتاريخ [2/7/1972] أرسلوا إليه الشيخ "محمود برات" ليتأكد مما إذا كان قد رجع عن أقواله الشاذة، فبدأ الترابي يراوغ في الإجابة، مما اضطر الشيخ أن يقول له: "نريد أن نحدد ماهية الإسلام ومراجعه وطريقة الأخذ عنه، ونتبين تصوره". إن الدكتور حسن الترابي لم يدرس العلوم الشرعية، بل تخصص في القانون الدستوري، حيث حصل على الماجستير في بريطانيا، و يقال بأنه أخذ الدكتوراه من فرنسا سنة 1964، ولم يترب في كنف أي حركة إسلامية، ولم تكن له صلة بالدعاة ولا بالجماعات الإسلامية، خلال مراحله الدراسية، لذا قال عنه الشيخ محمد سرور زين العابدين في بحثه الذي كتب منذ خمس سنوات: "بعض زملاء الترابي في الدراسة، وخصومه من السياسيين والإسلاميين يقولون كلاماً قبيحاً عن سيرة حياته في مرحلة الدراسة". * الترابي والتمهيد للانحراف الفكري: وقد مهد الدكتور الترابي للانحراف الفكري الذي ينظر له، بـ"كتيب" صغير الحجم قليل الفائدة صدر سنة 1977 - اشترته بما يعادل 50 أوقية موريتانية- دعا فيه لتجديد أصول الفقه، وغاب عنه أن منهج أصول الفقه إنما وضع ليعصم العقل من الخطأ والزلل، ويحوط النص ومقاصد الشريعة بسياج قوي، حتى لا يستبيح الجهلة حمى الدين، ويقتحم الأدعياء حرمة النص، فيغيروا الأحكام، ويشرعوا بأهوائهم ما لم يأذن به الله، ومناهج أصول الفقه ليست أقل شأنا من قواعد اللغة العربية أو غيرها من اللغات الأخرى، ولا أحسب أن عاقلا يدعو إلى إلغاء قواعد لغة أمته .... يقول الترابي في كتابه تجديد الفكر الإسلامي: "علينا أن ننظر في أصل الفقه الإسلامي، وفي رأيي أن النظرة السليمة لأصول الفقه الإسلامي تبدأ بالقرآن الكريم الذي يبدو أننا محتاجون فيه إلى تفسير جديد"، والذين درسوا فكر الترابي وآراءه ممن لهم زاد من الفلسفة الغربية، وصلة بالفكر الإسلامي الحديث تؤهلهم للتفكير المنطقي، وتعصمهم من "الإمعية" والانبهار بذلاقة لسان الرجل، يعرفون ماذا يقصد الرجل، وهو أمر لم يعد خاف على أحد. فهو ينظر إلى الأديان في "مسار تطورها" ـحسب زعمه- نظرة واحدة، وهو ما أكده في محاضرته الأخيرة، التي أشاد فيها بالمذهب البروتستانتي، وربما يخيل إليه الوهم أنه سيكون "مارتِن لوثر كينج" الأمة الإسلامية. وهذا ما قاله بوضوح في كتابه قضايا التجديد، حيث يقول: "ولم تعد بعض صور الأحكام التي كانت تمثل الدين منذ ألف عام تحقق مقتضى الدين اليوم ولا توافي المقاصد التي يتوخاها، لأن الإمكانيات قد تبدلت وأسباب الحياة قد تطورت"، وفي هذا السياق تأتي سخريته، من طلاب القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، حيث يقول عنهم: "هذا هو الطريق للخمول والتقوقع والتحجر، ولم تقم الجامعة لتخريج عناصر جامدة متقوقعة، وإنما فتحت للعناصر القادرة على خدمة الناس في واقعهم العصري"، وقد أنجب فكره شبابا إسلاميين" -كما يقول أحد المنسحبين من هذا التيار- "يجيدون الغناء وقراءة النوتة الموسيقية أكثر من قراءة القرآن". والعجب كل العجب ممن يزعم أن الترابي مجدد في الفكر الإسلامي، وهو يسعى إلى تقويض الإسلام ذاته، بثورته كل منهج إسلامي، وعدم احترامه لقدسية النص، ولو كانت آية محكمة، أو حديثا متواترا، إلا إذا وافق هواه، وطابق رأيه فإنه يأخذ به وإن كان حديثا موضوعا، يقول بسام ناصر: "يتشبث الدكتور بالنص القرآني، وليس ذلك عنده مطرداً، بل يغفل عنه أحياناً فيرد دلالاته ومقتضاه"، رادّاً للأحاديث النبوية الصحيحة، دافعاً في نحرها، والحجة التي يستند إليها ليست من جنس بضاعة أهل الحديث وصناعتهم، بل هي مقولات قوامها الرأي الذي يقيم العقل في وجه النقل، فيعلي من شأنه بل ويرفعه عليه، جاعلاً منه الحكم والمعيار والمرجع". وهذا هو عينه لب التجديد في الفكر الغربي، الذي يرتكز -حسب الدكتور سيف الدين عبد الفتاح- على أساسين هما: أ- التكيف المستمر في إطار من نسبية القيم وغياب العلاقة الواضحة بين الثابت والمتغير؛ إذ يعتبر فكل قيمة ـ لديهم - قابلة للإصابة بالتبدل والتحول؛ لأن الدين -عندهم- نتاج بشري متأثر بالظروف التي نشأ فيها. ب- مفهوم التجاوز المستمرة للماضي، والثورة عليه، بإحداث تغيير جذري وانقلاب في وضعية المجتمع، وفكرة التجاوز" لدى الغرب تقوم على نفي وجود مصدر معرفي مستقل عن المصدر المعرفي البشري المبني على الواقع المشاهَد أو المحسوس المادي"، كما يقول الدكتور سيف الدين عبد الفتاح. وهذا هو لب دعوة الترابي وجوهر تجديده، الذي يسعى إلى تجسيده في واقع المسلمين، ولن يقتنع بدعوة الترابي هذه إلا علماني، أو مسلم جاهل بدينه، لا حظ له من العلم الشرعي، ولا نصيب له من الفكر الرصين، أو رجل مغموز في ورعه، مطعون في دينه وتقاه. إن مفهوم التجديد في الفكر الإسلامي يقوم على أسس أشد رسوخا من أن يهزها الترابي بآرائه، أو ينال من ثباتها الأزلي، وقد صمدت طوال أربعة عشر قرنا أمام هزات أشد قوة وأكبر حجما، فلم يزدها ذلك إلا رسوخا، منذ أن هبت عواصف الخوارج، والمعتزلة، والباطنية، والقرامطة، والقاديانية، والبهائية، والاستشراق، والاستعمار، والعلمانية، والفقهاء المفتونين بحضارة الغرب خلال القرن العشرين، وستصمد هذه الأصول راسخة في شموخ أزلي، يستوعب ما يستجد من أحداث، ولا يضيق بما يطرح من تحديات، أمام هجوم الترابي ومن حذا حذوه. زعمت سخينة أن ستغلب ربها وليغلبن مغلب الغلاب إن أنصار التجديد الإسلامي الأصيل أكثر -بحمد الله- ثقافة، أرسخ قدما في العلم، وأشد ثباتا من أن يستفزهم الترابي بترهاته، يدعون إلى التجديد، ويرفضون التقوقع والانكماش، بيد أن مفهوم التجديد ـلديهم- يقوم على أسس مغايرة لما يدعو إليه الترابي، فقوامها عندهم: 1 — عدم الخلط بين منابع الدين الإسلامي "الشريعة"، وبين "الفقه الإسلامي"؛ لأن الشريعة صالحة لكل زمان ومكان، صلاح السنن التي تحكم هذا الكون وتسيره، أما الفقه فهو كسب بشري. 2- التمسك بالأصول الشرعية والأحكام القطعية وعدم تجاوزها؛ لأنها تضمن للفقه الإسلامي أصالته، وللفكر انتظامه من جهة، ولأنها من جهة أخرى تمثل جانب "الوحي" الذي يرشد العقل ويوجه التفكير ويقوم مساره. 3 - الاسترشاد بمنهج علم الحديث في التعامل مع "السنة" قبولا ورفضا، والاعتماد على مناهج أصول الفقه، في التعامل مع النص فهما واستنباطا. أما تجديد الدين الذي يدعو إليه الترابي، فإنه لا يخرج عما يدعو إليه بعض العلمانيين من ضرورة إعادة تأويل التعاليم الدينية علي ضوء المفاهيم الفلسفية الغربية، والمناهج العلمية السائدة في هذا العصر، وقد أبدى الترابي إعجابا كبير بالعمل الذي يقوم به الدكتور محمد أركون

لمحة عن النموذج الترابي التونسي 2/2

التيار الترابي في البلاد العربية والمراجعات المفقودة: لمحة عن النموذج الترابي التونسي 2/2 19-4-2006 بقلم نوفل بن إبراهيم ـ باحث تونسي مقيم في النرويج
لئن لزم الغنوشي الصمت كعادته في مثل هذه الأمور, حتى لا يثير عليه العلماء وهو بحاجة إلى إرضاء الجميع, وتزويق خطاب مناسب لكل تيار كما هي عادته, فإن بعض تلامذته لم يتحمل الصمت, فهاهو أحد رموز حركة النهضة التونسية في ألمانيا, حبيب المكني, يكتب مقالا طويلا تحت عنوان "تصريحات الترابي واختبار جديد لمبدأ حرية الرأي" *التيار الترابي في تونس ودخول العمل السياسي: ثم كان الإعلان عن ميلاد حركة الاتجاه الإسلامي ودخول العمل السياسي في 6 حزيران ـ جوان 1981، وهو الإعلان الذي تحفظ عليه العديد من رموز الصحوة مثل الشيخ محمد الصالح النيفر رحمه الله، فالصحوة كانت يانعة لم تقف على رجليها بعد, وقياداتها ينقصها الكثير من العلم والتمرس, فكيف تقتحم بالجموع زخم العمل للسياسي مرة واحدة؟, وقد دأبت الحركة منذ إعلانها عن نفسها بإبراز تميزها عما كانت تسميه بالحركات الإسلامية المشرقية, وهو توجه ترابي بحت, لتبرير مخالفاته. ثم جاءت محنة بداية الثمانينات، حيث سجنت قيادات الحركة من 1981 إلى 1984، لتخرج بعفو رئاسي بعد أن توجه أحد قادتها برسالة طلب عفو من رئيس الدولة, واستمر مسلسل" الاجتهادات الترابية" الجديدة وبدأ الترويج لكتب مالك بن نبي, بعد أن كان مهمشا بسبب غلبة التوجه الإخواني الذي كان يتحفظ عليه آنذاك. *المكونات العقدية والفكرية لأتباع حركة النهضة: ولفهم أعمق للتكوين العقدي و الفكري لحركة النهضة, لابد لنا من الرجوع إلى بحث كتبه الأستاذ الغنوشي ونشره "مركز دراسات الوحدة العربية" مع بحوث أخرى ألقيت في مؤتمر عقده المركز عن" الصحوة الإسلامية في الوطن العربي", ففي هذا البحث الذي حمل عنوان "حول مكونات الظاهرة الإسلامية في تونس"، يقول الغنوشي بأن هذه المكونات هي ثلاثة, وقد أسهمت مع بعضها في تكوين ذهنية أتباع الحركة, بعد أن تفاعلت: 1ـ التدين التقليدي التونسي: وهو المتمثل في عقيدة الأشعري وطريقة الجنيد السالك والمذهب المالكي. 2 ـ التدين السلفي الإخواني: موضحا أنه يعني الاهتمام بشمولية الإسلام, وبمسالة الحاكمية, ورفض القبورية والدعوة إلى الاجتهاد ورفض التعصب المذهبي. 3ـ التدين العقلاني: ويقول إنه المهيمن على الجناح الطالبي للحركة: ومن ميزات هذا التيار كما يرى، الإعلاء من شأن العقل, ونقد المنهج الاخواني وتجربته, والتفاعل الايجابي الكبير مع الثورة الإيرانية، والدعوة إلى التفاعل مع التجارب اليسارية في العالم ومع الفكر اليساري, وإلى إعادة الاعتبار للفرق التي أهملتها القراءة الرسمية السنية للتاريخ.. وأضيف بأن هذا المكون هو الذي هيمن على قيادة الحركة بعد تخرج الطلبة من الجامعة، باعتبار أن المثقفين هم من يقودونها في النهاية وليس التيار الشعبي الذي ظل في عمومه أقرب إلى المنهج الإخواني العام, أو ما يسميه الغنوشي بالتدين السلفي الإخواني, وهو ما نلمسه في أغلب العناصر غير المثقفة من أتباع النهضة في المهجر, أما في تونس اليوم فقد اختفت الحركة من الساحة الشعبية.... وعندما تقرأ لغالب النهضويين اليوم وإخوانهم من أنصار المدرسة الترابية الذين اختلفوا مع الغنوشي, وتركوا التنظيم, ولكن لم يتخلوا عن المنهج الترابي, تخال نفسك تقرأ لعلماني من العلمانيين, فلا تقرأ إلا عن الوطن وأوجاع الوطن والمجتمع المدني, بل لا أستغرب أن نقرأ لهم قريبا عن "أزمة الأغنية والموسيقى التونسية وسبل النهوض بها"!, "لأنه لا بد من الالتصاق بالجماهير وهموم الوطن والتخلي عن المثالية..."، ولم لا, فقد كنا معشر مناضلي ومناضلات الاتجاه الإسلامي نذهب أفواجا إلى مهرجان السينما في تونس لنشاهد الأفلام المشاركة في المسابقة، فنتفرج في اليوم الواحد على ثلاثة أفلام على الأقل, وكنا كالمجانين من قاعة سينمائية إلى أخرى, والكثير من تلك الأفلام كانت تحوي مشاهد مخلة بالآداب, ورغم أنني كنت أتساءل أحيانا بيني وبين نفسي عن شرعية ذلك, إلا أنني لم أكن قادرا على الإنكار, فهو التوجه العام للحركة التي أثق فيها ثقة عمياء, وأقول لنفسي إن الضرورة تبيح ذلك, وذلك حتى نتعلم النقد السينمائي, وتصبح لنا قدرة على إنتاج سينما إسلامية! * الرؤية الفكرية والمنهج الأصولي لحركة الاتجاه الإسلامي، والنزعة الاعتزالية الواضحة: وخوفا من تفلت أكثر للحركة بسبب ضعفها العلمي وجرأتها على النصوص, ولتميزا عن اليسار الإسلامي الذي مضى أسرع من الحركة في التحلل من مصدر التلقي, وظل يستقطب من حين لآخر بعض شباب الحركة المتفوقين فكريا وسياسيا, كما حصل مع زياد كريشان وكمال بن يونس وعبد العزيز التميمي، الذين كانوا من ألمع قيادات "الاتجاه الإسلامي" في الجامعة, فقد رأت الحركة وضع ما سمته بـ"الرؤية الفكرية والمنهج الأصولي لحركة الاتجاه الإسلامي", فكان أن كلفت د. عبد المجيد النجار, وهو المفكر الأزهري, بوضع تلك الرؤية، فصاغها على المنهج الترابي الذي اختاره تعزيزا لإعلاء منزلة العقل أمام النص، وتوسعا لما سماه بمنطقة الفراغ في الشريعة الإسلامية، التي اعترفت الحركة في نص وزعته لشرح تسميتها باسم "حركة الاتجاه الإسلامي"، بأنه مصطلح مستعار من محمد الباقر الصدر. وقد عمل النجار على أخذ موقف وسط بين أهل السنة وبين دعاة ما يسمى باليسار الإسلامي, فيما يتعلق بما سماه بالفهم المقاصدي للنصوص, الذي أهدر فيه اليساريون النصوص إهدارا تاما مقابل ما يرونه من مقاصد وضعوها للشريعة, فصارت المقاصد والمصالح عندهم تنسخ الأحكام الشرعية القطعية، مثل أحكام الميراث والحدود وغير ذلك, مستدلين بالطوفي الذي قال بالعمل بالمصلحة حتى ولو خالفت النص, ومقتدين بمعلمهم, حسن حنفي القائل بأن "الوحي علماني في جوهره"، مستدلا بالنسخ في القرآن الذي هو تغيير للأحكام بتغير الوقائع كما يرى, ويرى أن النسخ يستمر بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم, مع تغير الوقائع والمستجدات. وهكذا لم يعد هناك ضابط أمام الاجتهادات، وصار يكفي أن تكون طلق اللسان وقارئا لفلان وعلان من دعاة "الفكر الإسلامي المستنير"، والأفضل أيضا للجابري وأركون ولميشيل فوكو وجاك ديريدا, لتكتب ما تشاء وتقول ما تشاء ولا أحد يعترض عليك. * الحركة ومرحلة المهجر: بعد المواجهة الكبيرة مع النظام في تونس في صيف 1991م, منيت الحركة بهزيمة قاسية, لم تدفع ثمنها لوحدها, و لكن كل العاملين للإسلام في تونس, على اختلاف مشاربهم ومناهجهم,وفي المهجر الأوروبي استقرت بقايا قياداتها التي لم تنسحب من الحركة أو أفلتت من السجن، وكذلك أغلب بقايا أتباعها, وهناك خضعت الحركة إلى تأثير التيارات السلفية على العديد من أتباعها ـ في الواقع لقد بدأ التأثير السلفي لدى الكثيرين, منذ مرحلة الهجرة إلى السودان بالنسبة لمن أقام في السودان قبل الهجرة إلى أوروبا, بعد خيبة الأمل في النموذج الترابي في السودان الذي انكشف لهم على حقيقته ـ مما جعلها تخسر العديد من أتباعها, وتضطر إلى شن حملة تحصين لضمان ولاءهم. وفي نفس الوقت، ومع مرور الزمن واستعصاء عفو النظام عن الحركة, كان التواصل مع شق هام من اليسار الماركسي الراديكالي المتطرف في عداوته للإسلام وللشريعة الإسلامية والعلمانيين, يتوطد حتى كادت تختفي الحواجز.. وكان من نتيجة هذا الفكر الترابي المتألق، محاربته للسلفية وتواصله مع اليساريين. بل بدأت القيادات المتألقة تتساقط صرعى اليسار، فهذا القيادي المناضل العتيد نور الدين الختروشي، الذي طالما نسق ولا يزال مع اليسار التونسي في باريس يعلن انسحابه من حركة النهضة وتخليه عن "الإسلام السياسي"! كما قال، ورغم ذلك فلم يتوان هادي بريك أحد قيادات حركة النهضة في ألمانيا من كتابة مقال كامل لمدحه، وذلك لأن الختروشي قد رفض عرض أحد مبعوثي النظام له بالعودة إلى تونس، فأخذوا ينفخون في موقفه النضالي البطولي, لأن ذلك هو الأهم, أما قضايا التدين، فلا تحظى بالقدر نفسه من الاهتمام. وفي الوقت الذي لا نجد فيه مراجعة واحدة أو اعتذارا من الحركة للسلفيين الذين تشتمهم باستمرار وتشهر بهم في المجالس العامة, فإنها سباقة إلى الاعتذار من الإخوة المناضلين في اليسار كما يصفهم حسين الجزيري ومحمد بن سالم عضوي المكتب السياسي لحركة النهضة في حوار مع الصحفية اليسارية سهام بن سدرين, نشرته في مجلتها الالكترونية "كلمة"، وقد تضمن الحوار إضافة إلى هجمة شرسة على تيار الدعوة السلفية في تونس، اعتذارا من اليسار لخطأ فادح وقع فيه الغنوشي عندما استعمل عبارتي, كفر وإيمان, إذ يقول محمد بن سالم: "ووردت عبارة كفر وإيمان, وهي عبارة نأسف لها", مضيفا: "إن المعركة ليست بين كفر وإيمان, فراضية مازالت كيسارية محترمة, تدافع عن حقوق الإنسان, ونحترمها من أجل ذلك ونتضامن معها". وراضية هذه هي راضية النصراوي, المحامية الشيوعية المتطرفة في عداوتها للإسلام وتشنيعها بأحكامه, زوجة حمة الهمامي زعيم حزب العمال الشيوعي التونسي الماركسي الستاليني المتطرف، الذي يستلهم من فكر رأس التطرف الماركسي أنور خوجة, الذي لا يتردد في إعلان إلحاده، ولا ينافق مثل الأحزاب الشيوعية العربية التي كانت مرتبطة بموسكو, التي ينعتها بالتحريفية, وقد تسبب هذا الحزب في ردة الآلاف من الشباب عن الإسلام في تونس, وقد عرف الحزب بدمويته وإرهابه, لكن الغنوشي وجماعته يدافعون عنه ويستميتون في التحالف معه لمجرد أنه مختلف مع السلطة في تونس. ونجد الغنوشي يدخل في إضراب جوع في مكتبه في لندن منذ سنوات قليلة تضامنا مع راضية النصراوي القيادية الشيوعية المضربة عن الطعام في بيتها حتى يطلق سراح زوجها "المناضل العتيد". * موقف الترابيين التونسيين من تصريحات الترابي الأخيرة: لئن لزم الغنوشي الصمت كعادته في مثل هذه الأمور, حتى لا يثير عليه العلماء وهو بحاجة إلى إرضاء الجميع , وتزويق خطاب مناسب لكل تيار كما هي عادته, فإن بعض تلامذته لم يتحمل الصمت, فهاهو أحد رموز حركة النهضة التونسية في ألمانيا, أبو وليد حبيب المكني, يدبج مقالا طويلا تحت عنوان "تصريحات الترابي واختبار جديد لمبدأ حرية الرأي"، ينشره على موقع نهضوي هو موقع الحوار, يقول فيه في مقدمته إنه لا يحب التكلم في المسائل الشرعية، ويتركها إلى أهل الاختصاص, ثم يناقض نفسه في كامل المقال في رده على أهل العلم والاختصاص، بتهجمه عليهم على إدانتهم للترابي ومطالبتهم باستتابته, مطالبا بما يسميه حرية الفكر, ورفض الوصاية على الناس، مدينا الحكم الذي سبق أن صدر في عهد نميري بردة زعيم الإخوان الجمهوريين الباطني, علي محمود طه، وهكذا على العلماء أن يخرسوا ليتركوا لرويبضات الترابي المجال أن يجتهدوا في الدين على هواهم, وما يقوله المكني يتفق مع ما سبق أن صرح به الغنوشي للصحفي الأردني قصي صالح درويش في كتابه "حوارات مع الغنوشي"، إذ عندما سأله درويش عن رأيه في سلمان رشدي ورواية "أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ, كان جواب الغنوشي: "أنا ضد تدخل الفتوى في قضايا الفكر"! كانت الأسطر السابقة مختصرا لفكر وممارسات التيار الترابي التونسي, للدلالة على أن الأمر يتعلق بظاهرة كرسها الترابي وتلامذته في البلاد العربية, ولا تتعلق بشخص الترابي نفسه, وهي في الواقع غيض من فيض, والسؤال الآن هو: إلى أين المسير، وإلى متى يستمر مسلسل الانهيار دون ضوابط، وإلى متى يستمر خلو حركة النهضة التونسية من العلماء وتهميشها للعلم الشرعي, وإلى متى يستمر المتعاطفون من غير التونسيين في الدفاع عنهم والتعصب لهم؟

لمحة عن النموذج الترابي التونسي 1ـ2

التيار الترابي في البلاد العربية والمراجعات المفقودة: لمحة عن النموذج الترابي التونسي 1ـ2 18-4-2006 نوفل بن إبراهيم ـ باحث تونسي مقيم في النرويج

لقد أحدث الترابي شرخا كبيرا وفادحا في الحركة الإسلامية في البلاد العربية لا يزال قائما إلى اليوم, وخاصة في جماعات الإخوان المسلمين والتيارات القريبة منها, والبلد الذي حقق فيه التيار الترابي أكبر اختراق بعد السودان طبعا, هو تونس، حيث استحوذ التيار الترابي على زمام "حركة الاتجاه الإسلامي" التي تحولت فيما بعد إلى حركة النهضة, فقد تبنت قيادة الحركة وعلى رأسها قائدها ومنظرها راشد الغنوشي, فكر ومنهج الترابي أثارت تصريحات الترابي الأخيرة زوبعة في السودان وصلت إلى حد مطالبة علماء السودان في "الرابطة الشرعية لعلماء ودعاة السودان" باستتابته, بعد أن وثقوا تصريحاته في إباحة الخمر مدة معينة, وإنكار الحجاب الشرعي وأن شعر المرأة ليس بعورة, وأن اليهود والنصارى مؤمنين وليسوا كفارا, وأن للمرأة أن تؤم الرجال في الصلاة, وأن شهادتها ليست نصف شهادة الرجل وإنكار نزول المسيح, وأن من يقول بذلك جاهل! إلى غير ذلك من الشطحات التي عرف بها.. والتي لا يستغربها من عرف الترابي في مجالسه الخاصة ومن عرف متطرفي الترابيين. وقد وصلت أصداء زوبعة تصريحات الترابي القديمة المتجددة إلى الأوساط الدعوية والإعلامية خارج السودان, ربما بحثا عن أضواء افتقدها, أو انتقاما من العلماء والدعاة الذين قاوموه في السودان وخارجها وفرحوا بإبعاده عن الحكم في السودان, إلا أن المشكلة هي أن الردود تحصر الأمر في شخص الترابي, الذي لم تعد له قيمة في حد ذاته بعد أن فقد نفوذه وأهميته في السودان, وانفض من حوله أغلب أتباعه, غافلة أو متغافلة عن التيار الترابي في البلاد العربية, الذي يظل بعيدا عن المراجعات مطالبا غيره بها، وهو الأحوج إليها، خاصة وهو بصدد التحول, إن لم يتدارك عقلاء الإخوان المسلمين وعلماءهم الأمر, إلى طابور خامس داخل الحركة الإسلامية, ينظر إلى التدخل الأمريكي في البلاد العربية, كأمر مفروض لا مفر منه باسم الواقعية واستيعاب المرحلة. ففي حين تشن حملات إعلامية ممنهجة وإرهاب فكري منذ سنوات على بعض التيارات الإسلامية مطالبة إياها بالمراجعات, وهي مراجعات مطلوبة من الجميع بلا شك، وخاصة ممن تورطوا في مسارات ومناهج خاطئة خالفت مقاصد الشريعة وأضرت بمصالح المسلمين.. فمتى يؤوب الترابيون أيضا إلى المراجعات, بعد أن وصلت الأمور إلى افتئات واضح على بعض أحكام الشريعة، وملامح بدايات تنظير للاستقواء بالأمريكان "لتغيير" الأوضاع الراكدة في البلاد العربية؟! * الترابي والترابيون: التيار الترابي أو الترابيون، كما يسميهم الشيخ الدكتور محمد عبد القادر أبو فارس, أحد قيادات الإخوان المسلمين في الأردن، الذي هاله ما أحدثه الترابي وأتباعه في إخوان الأردن, فكتب عن الظاهرة يقول: "الترابي والترابيون: هم جماعة فتنوا بأفكار حسن أحمد عبد الله الترابي, وهو سوداني النشأة والحياة, درس القانون وتخرج من الجامعة الفرنسية "السربون" حاصلا منها على درجة الدكتوراه. والترابيون هم الذين فتنوا به وأعجبوا به من السودان ومن غير السودان, فله معجبون في الأردن وفي اليمن و في الجزائر وفي سوريا وفي لبنان وفي تونس .. ومن أكثر البلاد تأثرا به, نفر من الاخوان المسلمين الأردنيين ...". * توطئة: لقد أحدث الترابي شرخا كبيرا وفادحا في الحركة الإسلامية في البلاد العربية لا يزال قائما إلى اليوم, وخاصة في جماعات الإخوان المسلمين والتيارات القريبة منها, والبلد الذي حقق فيه التيار الترابي أكبر اختراق بعد السودان طبعا, هو تونس، حيث استحوذ التيار الترابي منذ 1981 على زمام "حركة الاتجاه الإسلامي" التي تحولت فيما بعد إلى حركة النهضة, فقد تبنت قيادة الحركة وعلى رأسها قائدها ومنظرها راشد الغنوشي, فكر ومنهج الترابي تبنيا كاملا منذ وقت مبكر, ولكنها حافظت في نفس الوقت بخلاف الترابي, على ارتباطها بالتنظيم الدولي للإخوان المسلمين, مجتهدة في تسويق منهج الترابي وفكره داخل صفوف تنظيمات الإخوان المسلمين, فهاهو الغنوشي يسافر برفقة عزام التميمي إلى الأردن في الثمانينات للدعوة لمبايعة إخوان الأردن للترابي زعيما للتنظيم الدولي للإخوان المسلمين! وإذا كان هناك حديث كبير في الكتابات الإسلامية عن ما يسمى بالتيار العصراني أو ما يسميه البعض بالتيار التغريبي داخل الحركة الإسلامية, واختراقه للفكر الإسلامي وللإخوان المسلمين والجماعات المشابهة لهم, والجذور العلمانية للكثير من رموزه الذين قدموا من تجارب يسارية قومية, لينقلبوا بعد تدينهم بين عشية وضحاها إلى منظرين للفكر الإسلامي ودعاة للتنوير والتجديد الإسلامي!, يعني ليفصلوا لنا إسلاما على مقاسهم!...فإن هنالك غفلة عن أن الاختراق الترابي للإخوان المسلمين كما أحسب, هو الذي مهد الأرضية لتقبل هؤلاء المفتئتين على الشريعة القادمين من تجارب علمانية ويسارية مثل محمد عمارة وغيره. ولذلك كان من الخطأ اعتبار الترابي مجرد عصراني من العصرانيين وعدم التأكيد على أنه صاحب مدرسة هي الأخطر في هذا المجال, مدرسة تجمع بين العمل الفكري المخالف في عدد من جوانبه لمنهج التلقي والاستنباط والعمل الحزبي والكفاح السياسي, بل والعسكري إن لزم الأمر... وهكذا انتشر الترابيون منذ الثمانينات كالنار في الهشيم في تنظيمات الاخوان المسلمين والجماعات القريبة منها, أو المشابهة لها, في الأردن واليمن, حيث تمكنوا من محاصرة الشيخ عبد المجيد الزنداني, وفي الجزائر والمغرب وموريتانيا وغيرها من البلاد... واختلط المؤثر الترابي بالمؤثر الإيراني الشيعي في تنظيمات إسلامية نظرا للعلاقات الوطيدة بينهما, كما هو الشأن في حركة النهضة التونسية, وتنظيم "حركة الاختيار الإسلامي" في المغرب سابقا, الذي انقسم منذ سنوات, لينضم الشق الأكثر "راديكالية في ترابيته وإيرانيته" إلى التحالف مع اليسار الماركسي المتطرف في المغرب اليوم ضد إخوانه المسلمين, وهو ما يعرف باسم حزب "حركة البديل الحضاري". وبما أن التفصيل في تجليات وامتدادات التيار الترابي في البلاد العربية يطول، سأكتفي في هذا المقال, بتناول التيار الترابي في تونس, حيث حقق حتى بداية التسعينات ـ قبل انهياره الشامل هناك ـ أكبر اختراق للحركة الإسلامية بعد السودان ... حتى صار اسم الغنوشي يقرن بالترابي في العقل الجمعي للنخبة الإسلامية, وخاصة أن الغنوشي لا يكف عن وصفه بالعلامة والإمام المجدد الترابي! وقد سبق أن نشرا كتابا مشتركا بينهما حمل عنوان "الحركة الإسلامية والتحديث"، كما أن الغنوشي أهدى أهم كتبه وهو "الحريات العامة في الدولة الإسلامية" إلى شيخه حسن الترابي, واصفا إياه بالإمام المجدد, إضافة إلى إهداءه إلى الإمام المجدد الخميني! ونموذج حركة النهضة التونسية هو أكثر النماذج تعبيرا عن التوجه الترابي في غير السودان, ولذلك ظل العديد من الباحثين الغربيين مثل فرنسوا بورغا, الباحث الفرنسي المتخصص في الحركات الإسلامية وبعض الأتباع من الباحثين العرب أيضا, يؤكدون على تميز فكر حركة نهضة الغنوشي عن بقية التيارات والحركات الإسلامية في البلاد العربية، وهو ما يعتز رموز الحركة به ويستشهدون به باستمرار, حتى إن بعض الباحثين الغربيين يصف الغنوشي بـ"الليبيرو إسلامي". ومما تميزت به الحركة في نظري هو الانشقاق الذي شهدته في وقت مبكر من نشأتها في أواسط السبعينات، وهي لا تزال تخطو خطواتها الأولى بحثا عن موطئ قدم لها في الساحة, ذلك الانشقاق الذي سوف يلعب دورا رئيسا في توجهاتها اللاحقة, إذ إنه رغم محاصرة المنشقين تنظيميا, بعد أن عزلوا أنفسهم برفضهم تكوين تنظيم لحركة الصحوة, فقد تمكنوا من اختراق الحركة بفكرهم ومنهجهم, عبر بعض عناصرهم التي بقيت مع تيار الأغلبية مثل بن عيسى الدمني، الذي تولى عضوية أول مكتب سياسي للحركة بعد إعلان تأسيسها في حزيران ـ جوان 1981, عبر ضغطهم على الحركة بحواراتهم مع مثقفيها وتكثيفهم للنشر عبر "مكتبة الجديد" التي كان يملكها أحدهم, والتي تحولت فيما بعد إلى "دار البراق"، وكانت تنشر كتبهم وتبيع ما يخدم فكرهم, عبر مجلتهم التي سموها مجلة الفكر الإسلامي المستقبلي, التي كانت تنشر لمنظريهم مثل صلاح الدين الجورشي وحميدة النيفر، إضافة إلى كتابات أركون وحسن حنفي وأنطونيو غرامشي, وعلي شريعتي وحتى بعض كتابات "لاهوت التحرير" في أمريكا اللاتينية" الذي كانوا معجبين به!.... ومما ميز ذلك الانشقاق كما يرى بعض الدارسين، هو أن المنشقين على الحركات الإسلامية عادة ما يجنحون إلى ما يسمونه باليمين, فيعيبون على الحركة التميع والتساهل ويدعونها إلى التمسك بالأصول, إلا أن الانشقاق المبكر الذي قام به دعاة ما يسمى باليسار الإسلامي الذين سرعان ما اختاروا تسمية "الإسلاميون التقدميون"، كان يدعو إلى عكس ذلك، فقد كان انشقاقا إلى اليسار مشبعا بالتحامل على منهج أهل السنة، الذي كرس الانبطاح للحاكم، حسب زعمهم، والحرفية والماضوية...وكان همهم منصبا على نقد حركة الإخوان المسلمين، التي كانت تمثل في ذلك الوقت حسب اطلاعهم التعبير السياسي الحركي عن منهج أهل السنة, وينقمون عليها تمسكها به كما يرون, و"أخلاقويتها"، وهو مصطلح طلعوا به على الساحة، ويعنون به استغراقها في نقد المسائل الأخلاقية والاهتمام بها, على حساب الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للإسلام, ويدعون إلى الانفتاح الواسع على اليسار وإعادة الاعتبار إلى الفرق التي همشتها القراءة السنية الرسمية حسب قولهم. وتجدر الإشارة إلى أن المنظرين الأساسيين، كانا حميدة النيفر الذي درس في الأزهر إلى مستوى الماجستير, وحمل عداء شخصيا لسيد قطب..., وصلاح الدين الجورشي، الذي انضم إلى شباب الصحوة شابا عصاميا بعد أن انقطع عن الدراسة قبل السنة الأخيرة في الثانوية! وهو اليوم من ألمع الصحفيين في تونس. وقد تميز هؤلاء اليساريون بدعوتهم إلى إعادة النظر في موقع ودور المرأة في العمل الإسلامي والمجتمع وإعادة قراءة النصوص في ضوء ما سموه بمقاصد الشريعة وحركة التاريخ، وهنا أدخلوا القراءة الماركسية أي المادية التاريخية وقراءتها لأنماط الإنتاج عبر التاريخ, واستفادوا في ذلك من المنظر الإيراني الشهير علي شريعتي، الذي يدخل الصراع بين أنماط الإنتاج حتى في الخلاف بين ابني آدم، باعتبار أحدهما يعبر عن نمط الإنتاج الرعوي والآخر يعبر عن نمط الإنتاج الزراعي...! وهكذا وصل منظرو التيار إلى القول بإلغاء الحدود والمساواة بين الجنسين في الميراث، إن لم يطالب بعضهم بإلغائه. ويوجد اليوم ثلة من هؤلاء في المكتب السياسي للحزب الديمقراطي التقدمي بقيادة أحمد نجيب الشابي, وهو تجمع يساري يضم يساريين من مشارب شتى قومية وماركسية و"إسلامية تقدمية"، وينسق مع حركة النهضة. لقد أثارت في حينها أطروحات هذا التيار زوبعة كبيرة في صفوف الصحوة الإسلامية اليانعة, وكان الغنوشي على رأس محاربيهم متهما إياهم بالمروق عن الدين, بل إنه كان يطالبهم بمراجعة إيمانهم, ومن ذلك ما حدثني به الأخ الحبيب, لطفي السنوسي, وهو سجين اليوم ومحكوم بالمؤبد ـ وقد كان من رافضي المنهج الترابي ـ أنه عندما كان حميدة النيفر يطالب بإنكار حد الردة, كان الغنوشي يقول له: "راجع إيمانك". ومضت الأمور على هذا المنوال بسبب تمسك الجماعة بالخط التقليدي لجماعة الإخوان المسلمين الموافق في عمومه لمنهج أهل السنة والجماعة...إلى أن عاد الغنوشي من زيارته للسودان سنة 1981، حيث مكث هناك فترة في ضيافة الترابي, وبعد عودته ألقى محاضرة بين قيادات الصحوة انقلب فيها كما يروي الشيخ خميس الماجري مقاله" قصة الإعلان"، 180 درجة على منهجه السابق, حتى قال حميدة النيفر: "لو كنت أحسن الزغردة لزغردت". ومن وقتها والحركة تشهد تحولات عميقة في منهجها الفكري والعقدي والتربوي، بعد أن اعتنق منظرها وقائدها المنهج الترابي, فهمشت التربية والدراسات الشرعية وعظمت الفلسفة والكتب الفكرية, وصار العمل الإسلامي هو العمل السياسي. ومن المفارقات التي بانت لي بعد مغادرتي للحركة، هي أننا كنا ننتمي إلى تنظيم ينتمي دون علمنا إلى التنظيم الدولي للإخوان المسلمين, في حين أننا نُشئنا في الحركة على السخرية من منهج الإخوان "الأخلاقوي"، وأقبلنا بنهم على كتابات المفكرين الشيعة الإيرانيين والعراقيين وغيرهم, بعد أن اقتنعنا بأن الخلاف بين أهل السنة والشيعة خلاف تاريخي مصطنع, كما كان يكتب الغنوشي في مجلة "المعرفة"، فأبهرتنا تلك الكتابات بمصطلحاتها الجديدة علينا, مثل المستكبرين والمستضعفين والاستكبار العالمي, ومناقشاتها المعمقة للماركسية والفلسفات السياسات الغربية, حيث لم نعرف من أهل السنة من تناول هذه المسائل بالعمق الذي وجدناه عندهم والاطلاع, وهذا تقصير لدى الكثير من سادتنا علماء أهل السنة المعاصرين، لا أعلم من عمل على تجاوزه غير الشيخ سفر الحوالي في كتابه "العلمانية", في حين رد أبو حامد الغزالي على فلاسفة عصره رد المتمكن العالم بمذاهبهم, وكذلك شيخ الإسلام ابن تيمية من بعده. وكانت الحركة هي التي تروج بيننا هذه الكتابات وتشجعنا على قراءتها، خاصة أن الغنوشي قد وضع الخميني في مصاف مجددي القرن الثلاثة إلى جانب المودودي والبنا، ثم كان للسفارة الإيرانية دورها الكبير في مدنا بالنشريات والكتب, كما كان هناك دور لمجلة "المسلم المعاصر"، التي كانت تحسب على "اليسار الإسلامي" ويحذرنا الإخوة منها, قبل أن تدور الأيام وإذا بها قريبة من فكر حركة النهضة! وكان هناك دور كبير لمكتبة الجديد, التي كان يملكها أحد عناصر" اليسار الإسلامي"، الذي يعد هو أول تيار روج لكتب "اليسار الإسلامي" في تونس وأساسا كتب حسن حنفي, وكذلك للكتابات الشيعية القريبة من فكرهم وخاصة لعلي شريعتي، الذي كانوا هم أول من انبهر به وروج له, وحتى أكون أمينا فقد حذرنا الغنوشي في أحد دروسه المسجدية من كتاب "الشهادة" لعلي شريعتي, الذي طعن فيه في أبي هريرة وافترى عليه, إلا أن ذلك التحذير لم يكن شيئا يذكر أمام تزكيته لكتب الشيعة وترويجه لها, فهل الخميني الذي لا يزال يصر على تسميته بالامام المجدد أفضل من شريعتي، فشريعتي على الأقل قد رفض ما كان يسميه بالتشيع الصفوي، وهو صاحب مصطلح "التشيع الصفوي"، ورفض الكثير من خزعبلات الشيعة الأمامية، التي اعتبرها تحريفات صفويةـ مثل كتاب "بحار الأنوار" للمجلسي, وهو الكتاب الذي طالما أثنى عليه الخميني, بل إن علي شريعتي كان متهما بالوهابية، بسبب رفضه للكثير من خزعبلات التشيع الصفوي

فكر وممارسات الحركات الإسلامية في مصر والسودان

كتاب عرب وأجانب يناقشون فكر وممارسات الحركات الإسلامية في مصر والسودان
لندن: الخاتم عدلان
- www.asharqalawsat.com - 2005/01/16
كتاب «الإسلاموية وأعداؤها في القرن الإفريقي» (هيرست أند كومباني لندن، 2004)، يتكون من ستة بحوث ألف ثلاثة منها بالاشتراك كل من أليكس دي وال، وعبد السلام حسن عبد السلام، وبحث منفرد لكل من أليكس دي وال، ومحمد محمد صالح ورونالد مارشال. وحررها وكتب مقدمة الكتاب أليكس دي وال.يناقش الكتاب فكر وممارسة الحركات الإسلامية في وادي النيل والقرن الإفريقي، مركزا على التجربتين المصرية والسودانية. وسينعكس هذا التركيز على عرضنا للكتاب الذي نعتقد أنه مساهمة عميقة ومتفردة في نقد تجربة الحركات الإسلامية في هذا الجزء من إفريقيا.يمكن تلخيص ما توصل إليه أليكس دي وال، وعبد السلام حسن، في هذا الكتاب بالعبارة المكثفة التالية التي وردت في البداية: «على الرغم من رؤية الإسلاميين بأن مشروعهم الإسلامي يمثل بديلا قويا نابضا، ينطوي على وعود كبيرة بجلب الديمقراطية وإحياء المجتمع المدني، والمساهمة في ترسيخ رؤية إنسانية شاملة تمزج بين المشروع الخاص وروح الجماعة والضمانات الاجتماعية، إلا أن حصيلة مشروعهم الكبير كانت، في نهاية المطاف، الفشل . وقد أدى الفشل على نطاق المشروع الكبير إلى محو مكاسب النجاح التي تحققت على مستوى «المشاريع الصغيرة». ويشير تحليلنا إلى أنه لا نزعات التجديد الإسلامي، ولا ما تلاها من «الأصوليات الجديدة»، تخطت حدود المعالجات الجزئية للمشاكل الصغيرة إلى مستوى ابتداع برنامج سياسي شامل لكل البلاد». (ص 21) ويرجع المؤلفان جذور هذا الفشل على مستوى المشاريع الكبيرة، إلى أحد أهم المنظرين لهذه الجماعات وهو سيد قطب. ومع أن بعض هذه الجماعات يزعم أنه تخطى سيد قطب، إلا أنها في الحقيقة ما تزال تعقل بعيرها في مرابضه، متمسكة بمقولاته الأساسية، حتى وإن تجنب بعضها استخدامها حرفيا. وأهمية سيد قطب تنبع أولا من انتمائه إلى مصر مما يجعل نظرياته تميل إلى الشمول والعمومية، مما يجعلها جاذبة بشكل عام، ولكنها عقيمة عند تطبيقها على واقع محدد. وثانيا، لأن سيد قطب مطلع على الفلسفات الأخرى، والعلوم الاجتماعية، وإذا كان قد نبذها فقد تبنى مناهجها بدون أن يقول ذلك، مما أعطى نظرياته درجة من التماسك، يمكن أن تكون مقنعة جدا للشباب في سن معينة، وفي مستوى تعليمي محدود، كما يمكن أن تكون مقنعة بالنسبة للغاضبين والحانقين واليائسين، أو الطامعين في المجد. وثالثا لأن سيد قطب أعطى تعريفا جديدا، للمقولات الأساسية في «الدسكورس» الإسلامي. فحوّل الحاكمية الإلهية، إلى برنامج سياسي عام. وامتد بمفهوم «الجاهلية» ليشمل البلاد التي يحكمها حكام مسلمون لا يرون ما يراه.هكذا تحول الجهاد إلى أمر مطلق، منفصل عن ملابسات الزمان والمكان، فهو دعوة إلى تحويل وجهة النظر السياسية إلى حقيقة مطلقة، وجعل القتل والتدمير أدوات مشروعة للانتصار للبرنامج السياسي، وإلى التحلل من المسؤولية الفردية باعتبار أن أعمال الفرد ليست إلا تنفيذا لأمر إلهي. ومع أن تنفيذه في غاية البساطة، إذ أنه يمكن أن يبدأ بثلاثة من الفتيان فقط، إلا أن مهمته مستحيلة، لأن النصر ليس من أولوياته.فكرة سيد قطب عن الجهاد، مارست تأثيرا كاسحا لدى الحركات الإسلامية اللاحقة. رددها مباشرة محمد عبد السلام فرج بعد قتل السادات: « لسنا مسؤولين عن النتائج» إننا فقط ننفذ إرادة الله. ثم عملت على هديها الجماعة الإسلامية في ريف مصر ومدنها طوال التسعينات، وكانت عناصرها من «الأفغان العرب» العائدين من أفغانستان، بمستويات وعيهم المتدني وقسوتهم، قد وضعت البلاد على شفا الحرب الأهلية. واستند إليها منظر الجهاد الأفغاني عبد الله عزام ولكنه وسّع قاعدتها بأن جعل الجهاد واجبا على كل مسلم، كما وضع لها أهدافا محددة هي استعادة كل الأراضي التي أخذت من المسملين عبر التاريخ، وتأثر بها الترابي، والقرضاوي والعوا، إذ يُجمع كل هؤلاء على الطابع العنيف الجهاد، وإباحة القتل، وإعفاء القاتل من المسؤولية الفردية، بل مكافـأته بالدخول إلى الجنان وفق نظام الحجز المسبق، ودون حساب إلهي.وهذا يفسر غياب المشروع السياسي المتكامل، لبناء مجتمع بديل، بمواصفات معلومة للجميع ومطروحة للأخذ والرد. إن اقصى ما تبلغه على مستوى البرنامج السياسي العام هو شعار: الإسلام هو الحل. وهي تعلم تمام العلم، أنه إذا اصطف مائة سياسي وطلب من كل واحد منهم ترجمة هذا الشعار إلى برنامج سياسي لأتوا بمائة برنامج، كل يخالف الآخر إن لم يتناقض معه. وتكفي الخلافات القائمة بين هذه الحركات ذاتها دليلا على صحة هذا القول.ولكن الكاتبين يشيران في أكثر من موقع من الكتاب إلى نجاح هذه الحركات على مستوى «الحلول الصغيرة» والجزئية. ويضربان عدة أمثلة على ذلك ، أبرزها الجهود التي قامت بها بعض هذه المنظمات أثناء الزلزال المصري عام 1992، وتقديمها خدمات أساسية للمنكوبين من خيام وأطعمة وأدوية، بسرعة وكفاءة عجزت عنهما البيروقراطية الحكومية المصرية. كما يقدم ممثلو هذه الحركات في القطاع المدني، خدمات كبيرة في مجالات التعليم، وخاصة الجامعي، والصحة والخدمات الطبية، وخاصة في الأحياء الفقيرة، والعون القانوني للفقراء وغير ذلك. وبفضل هذه الجهود التي يحسها الناس في حياتهم اليومية، تمكنت هذه الجماعات من الفوز في انتخابات أهم الاتحادات والنقابات المهنية في مصر، وهي جمعيات ومنظمات ذات وزن كبير. ولكن هل يمكن أن نقول نتيجة لذلك إن هذه الجماعات يمكن أن تساهم في بناء «مجتمع مدني» معافى ومزدهر؟سؤال يجيب عليه الكاتبان بالنفي، ويقدمان حججا قوية للدفاع عن وجهة نظرهما، منطلقين من تعريف جون كين للمجتمع المدني والذي يقول فيه: «يقوم المجتمع المدني على احترام تعددية الأنماط السلوكية والأشكال المختلفة للحياة المعاصرة. مصطلح «المجتمع المدني» هو مؤشر التعددية الطليقة» (كتاب المجتمع المدني: صور قديمة ورؤى جديدة، ص 53) باللغة الإنجليزية.الحركات الأصولية لا تفصل مطلقا بين الخيري، التطوعي، من جانب، والسياسي والآيديولوجي، من جانب آخر. إنها لا تقوم بالأعمال التطوعية كغاية في حد ذاتها، لها قوانينها واستقلالها، وحرمتها، بل تقوم بها كوسيلة لخدمة أهدافها السياسية والآيديولوجية البعيدة. ولذلك فالخدمات الاصولية كلها مدفوعة الثمن: المجمع الطبي، والصف الدراسي، التي تقدم خدماتها إما مجانا أو بأسعار مخفضة، هي نفسها أنسب الأماكن للتجنيد. توفير الخدمات للطالبات ليس لحاجتهن أو فقرهن، بل لقبولهن ارتداء الحجاب وتبني الموقف الفكري عن المرأة الذي تبشر به هذه الجماعات. ونسبة لأن البرنامج السياسي والآيديولوجي معاد للتعددية بكل أشكالها، فكرية أو ثقافية أو سلوكية، فإن «المجتمع المدني» الذي تقيمه هذه الحركات يمسخ المجتمع المدني الحقيقي ويمحقه محقا. إنه مجتمع مدني كاذب، يقوم على أنقاض الفرص الواقعية لإقامة مجتمع مدني حقيقي، لأنه معاد للخيارات الفردية للسلوك، وللحرية الحقيقية في الفكر.وتساعد الدولة المصرية هذه الحركة ربما بدون قصد منها، وذلك من خلال عمليتي التدجين والامتصاص، عملية التدجين قمعية وعنيفة، ويمكن أن تحرز نجاحات مع بعض هذه الجماعات التي تفهم مثل هذه اللغة أكثر من سواها بحكم الاحتراف، أما عملية الامتصاص فهي الجانب الناعم من العملية نفسها، والتي تتشرب فيها الدولة جرعات متصلة ـ وإن كانت مخففة ـ من البرنامج الاصولي. وهي ظاهرة خطيرة تشتري الاستقرار والأمن، بالكساح والشلل، ليس للدولة وحدها بل للمجتمع ككل.ويشير الكاتبان هنا إلى تضافر جهود مؤسسات رسمية مثل الأزهر، مع هذه الجماعات، في خنق حرية التعبير، والتي تمثلت في مصادرة الكتب، وإرهاب الكتاب والفنانين، ووصلت إلى قمتها في اغتيال الكاتب فرج فودة، يوم 8 يناير 1992، والذي قال قاتلوه من جماعة الجهاد: الأزهر أصدر الحكم ونحن نفذناه. ويبدي الكاتبان دهشتهما لرد الفعل الفاتر من المجتمع لتلك الجريمة النكراء، أو قضية المفكر نصر حامد أبو زيد، وحكم الردة الذي أصدره القاضي فاروق عبد العليم موسى الذي اعتمد على مبدأ الحسبة، رغم عدم وجوده في الدستور المصري، مستندا إلى أن الشريعة مصدر أساسي للتشريع. وفيما يتعلق بالدساتير فإن فتح الأبواب لمصدر تشريعي مبهم قانونيا، ومتروك بصورة كاملة للتأويلات الفردية، يمثل طعنة قوية لحكم القانون، ومدخلا واسعا للطغيان السياسي الذي يتخذ المظاهر الدينية. ويعزي المؤلفان عقم الحياة الفكرية لهذه التنظيمات إلى مشكلة اجتماعية أكبر هي بنية التعليم المصري الذي يعتمد على سلطة النص، ومرجعية الأستاذ، وإقامة تراتبية علمية زائفة، وإنغلاق فرص الترقي والعمل.وينتقل الكاتبان لمناقشة التجربة السودانية، ويبدآن بطبيعة الحال بالمساهمة الفكرية للدكتور حسن عبد الله الترابي، منظر «ثورة الإنقاذ»، و«فقيهها العسكري» كما يسميانه. والفرضية التي ينطلق منها الكاتبان هي أن الترابي مجدد ديني، ومفكر يمكن وصفه بلبرالية، إن لم تكن مستقيمة وسافرة، فهي على الأقل جزئية وضمنية. ولكنهما لا يشكان مطلقا في فرادة مكانته بين المنظرين الإسلاميين. جاء في تقييمهما نقلا عن الدكتور عبد الوهاب الأفندي:«حسن الترابي يعد واحدا من أميز رموز الإسلام السياسي، تنظيرا وتطبيقا. وإذا كان بمقدور أحد أن يجد حلا للمأزق الإسلامي، على مستوى النظرية والتطبيق، فهو الترابي. فمن إنجازاته أنه أحدث ثورة في التفكير الإسلامي، فوفق بينه وبين حقوق المرأة، وبينه وبين الديمقراطية والفنون، كما وحد الفلسفات السنية والشيعية والصوفية» (ثورة الترابي: الإسلام والسلطة في السودان).ولا يكتفي الكاتبان بهذه الشهادة العالية، التي تعتمد المبالغة بديلا عن التقييم المتوازن الموضوعي، بل يضيفان من عندهما ما يؤكدها في مواقع كثيرة من الكتاب. فيقولان: «إذا كانت هناك نظرية للتغيير السياسي والسلطة في التفكير الإسلامي، فإن الأمر الأكثر رجحانا أنها موجودة لدى الترابي» (ص75)، ويضيفان على سبيل الأمثلة لا الحصر: «تعكس كتابات حسن الترابي هذا المناخ الفكري والسياسي اللبراليين بوجه عام»( ص79). وانطلاقا من اللبرالية المفترضة في فكر الترابي يتساءل الكاتبان:«كيف تورط مذهب إسلامي، حتى وإن لم يكن على الدوام لبراليا، فإنه كان على الدوام تحديثيا، في مثل هذا التطرف الأصولي الجديد؟ هل كتب على الإسلام السياسي أن يرتد دائما إلى مثل هذه الممارسات وينقلب على القيم التي بشر بها من قبل»؟ ( ص75).الواقع أن الشهادات الواردة في الكتاب نفسه، وفي مواقع عديدة من صفحاته، تنفي شبهة اللبرالية عن الترابي نفيا كاملا. ولنورد بعض الأمثلة من متن الكتاب.يقول الكاتبان إن الترابي شارك في إنقلابين عسكريين، وكان المهندس الحقيقي للثاني، الذي كان يوجهه من منزله، أولا، ثم من مؤسساته، كما أنه كان منظر أكثر الحروب دموية في تاريخ السودان ضد الحركة الشعبية لتحرير السودان التي سماها جهادا.. (ص:88 ـ 89) كما قاد ما يسمى بحفلات «عرس الشهيد» التي كانت تجبر فيها العائلات على الاحتفال بموت أبنائها. وأيد ما سمي بأحكام الشريعة على عهد نميري رغم ركاكة صياغتها، وحشد من أجلها كل أتباعه. أيد إعدام محمود محمد طه، بحكم الردة وسماه «الذبح العظيم». أشار الكاتبان إلى تناقضات فكره الذي يأخذ بالشمال ما يعطيه باليمين وأوردا الأمثلة على ذلك:فهو يقول إن الحكومة الإسلامية ليست حكومة الشعب، على وجه الدقة، لأنها حكومة الشريعة، ولكنها، بوجه ما، حكومة الشعب، لأن الشريعة تعبر عن إرادة الأمة (ص 83). كما يشيران إلى أن أقواله عن المرأة تنفيها الممارسة العملية والقيود الثقيلة التي اعتمدتها القوانين المصاغة من قبله هو شخصيا، سواء في زيها أو عملها أو سفرها، أو القيود المفروضة على وجودها في الفضاء العام.ويمكننا أن نستنتج من ذلك أن منهجهما في نسبة اللبرالية إلى الترابي كان متساهلا كثيرا، وبالتالي فإن السؤال عن نكوصه عن لبرالية مزعومة ليس سوى سؤال مزيف. وأعتقد أن الخطأ في هذا التقييم مصدره أن الكاتبين، بدلا من محاكمة فكر الترابي في السياق السوداني الذي ورد فيه، لجآ إلى مقارنته بأفكار أصوليين إسلاميين في العالمين العربي والإسلامي، وتوصلا بالتالي، وعملا بمبدأ النسبية، إلى لبراليته المزعومة. ومع أنهما يشيران إلى المناخ الفكري اللبرالي وسط المثقفين السودانيين، والتجارب الديمقراطية المتقدمة نسبيا التي شهدها السودان، إلا أنهما لا يتخذانها معيارا للحكم على فكر الترابي، وتحديد منطلقاته السياسية والفكرية. فالفكر اللبرالي كان عميقا في السودان، وما الأصداء التي وردت منه في فكر الترابي، سوى محاولة لتشييعه بقبلة الموت. التنكيل باللبراليين والانقلاب على نظام ديمقراطي يجعلان من الصعب وصف الترابي باللبرالية.وفي نفس الوقت فإن المرأة السودانية التي نالت حق التصويت والترشيح للمناصب العامة، عام 1964، وكان لها وجود محسوس في كل دواوين الحكومة، وكل مجالات المجتمع، وكل قاعات الدرس، ما كان يمكن أن تعامل كما عاملت حركة طالبان أخوات لها في أفغانستان. وبالتالي فإن موقف الترابي وحركته من المرأة كان اعترافا بالامر الواقع، مع المناقصة عليه، وهذا ما يشير إليه الكاتبان أيضا.أما توحيد الترابي بين الفلسفات السنية والشيعية والصوفية، فليس سوى خيال، ينفيه واقع هذه المذاهب الآن. ولا يمكن لعقد المؤتمرات أن يكون موقفا فلسفيا في حد ذاته. ولكن الكاتبين ينتبهان إلى أن من الملامح الأساسية في فكر الترابي هي تشربه بعنف صار لحمته وسداه. على خلفية تقييمهما لفكر الترابي ينطلق الكاتبان لتقييم التجربة السودانية، في بناء الدولة الإسلامية. ويستطيعان من خلال تحليلهما لما سمي بالمشروع الحضاري، والتخطيط الاجتماعي، وبحوثهما الميدانية في جنوب النيل الأزرق، وجبال النوبة، ومعالجتهما لما عرف بالدعوة الشاملة، والجهاد، أن يلقيا أضواء باهرة على تلك التجربة، ويصلا إلى خلاصات عميقة حول طبيعتها.وفي تقييمهما للمشروع الحضاري، وهو الاسم الذي أطلقته الجبهة الإسلامية على برنامجها السياسي، يقول الكاتبان:اتخذ «المشروع الحضاري» شكل الجهاد والحرب الشرسة في الجنوب، وجبال النوبة، وشكل الدعوة الشاملة في جنوب النيل الأزرق وشكل التخطيط والهندسة الاجتماعية والقمع السياسي، في الخرطوم وبقية المدن ووسط السودان عموما. وفي كل مظاهره تلك اختلط بالعنف والقسر، واستخدام الحاجة القاهرة والفقر الشديد وسيلة للتبشير الديني. وهو يعني في تعريف الدكتور زكريا بشير إمام، «ثورة دائمة لإعادة صياغة الإنسان والمؤسسات القائمة في المجتمع على هدي القرآن» (ص 90).ومن خلال التحليل المطول يصل المؤلفان إلى أن المشروع الحضاري، فشل على كل المستويات. على المستوى السياسي لم يستطع أن يقيم دولة ديمقراطية تتسع للتداول السلمي للسلطة والرأي الآخر، وعلى المستوى الأخلاقي فشل في التنقية الأخلاقية حتى للقائمين على أمره، دع عنك كل المجتمع. فقد بدأ الإنقاذيون بالكذب حول هويتهم، ومارسوا التعذيب والتنكيل بالخصوم، وأشعلوا الحرب على أبناء وطنهم، وانغمسوا في فساد واسع ، حتى أشرفت الدولة نفسها على الإفلاس لولا اكتشاف البترول. الدعوة الشاملة فشلت في النيل الأزرق لاصطدامها بالواقع الإثني، ولمحاولتها اقتلاع الثقافات المحلية بين ليلة وضحاها، واعتمادها على التمويل من شركات بن لادن وغيره من الممولين العرب الذين انسحبوا في وقت حرج. كما أن الحرب لم تحقق انتصارا، رغم أنها قتلت وشردت الملايين.ويلخص الكاتبان حصيلة الجهاد بالعبارة التالية:«لم يؤد الجهاد إلى التزكية الأخلاقية للشعب أو المجاهدين. بل على العكس من ذلك، شهد السودان انتشارا واسعا للبغاء والفساد والانحدار الأخلاقي» (ص 106).

انتصارا للترابي السياسي ومراجعة لحسن عبد الله الفقيه

انتصارا للترابي السياسي ومراجعة لحسن عبد الله الفقيه www.arabrenewal.com
عبد المالك ولد عبد الله لست من عبيد الأسماء وأمج التقليد والمحاكاة وأبحث دائما في ما يكتب ويروى قبل شيوع قائله كائنا من كان أو مراعاة مكانته، لكن القرابة الفكرية التي تربطني بالترابي وعمق الحب الذي كان وسيبقى يشدني إليه يفرضان على تناول مسار وتجربة الرجل إنصافا لبذله وكدحه وعتابا على بعض اجتهاداته وخرجاته. ولن يضر المفكر حسن أحمد عبد الله الترابي أن غض منه كاتب أو أزرى به عالم "جامد" وترفعه عن الرد بل سكوته مع عادته في الرد على أنصاف المتعلمين أبلغ من التعرض لهم لأنهم عندما يساجلون فيما كتبوا أو يناظرون فيما أثاروا سيصيرون زعماء ومشاهير. وآراء الدكتور حسن الترابي تعلم العقل ومطالعة كتبه تنمي الفكر والإستماع إلى حواراته وأشرطته والنظر إلى طلعته وابتسامته التي لا تفارق محياه يخلفان التؤدة والأدب. صحبت الدكتور الترابي في أغلب كتبه ونتاجه، فقد قرأت له شذرات من "نظرات في الفقه السياسي"، "الحركة الإسلامية في السودان - التطور والكسب والمنهج"، وعدت إلى بحث له عن الشورى ثم الكتاب المشترك بينه والشيخ راشد الغنوشي "الحركة اللإسلامية والتحديث"، واعتمدت في رسالتي للماجستير في أصول الفقه الموسومة بـ "الإجتهاد الجماعي وأثره على المجتمعات الإسلامية" على نتف من بحثه حول "تجديد الفكر الإسلامي"، وسعدت بقراءة آخر ابتكاراته أعني كتابه الذي أعده في السجن "السياسة والحكم: النظم السلطانية بين الأصول وسنن الواقع"، وأشهد له بالتبحر والمعرفة التامة في تصانيفه الدائرة في حقل الثقافة والسياسة والفكر، ووددت لو كان مجال المحاكمة لتنظيرات الترابي "وفتاواه" المنتديات الفكرية أو الندوات العلمية، لا المجامع الفقهية أو رابطات العلماء الرسمية، وذالك لضرورة إبعاد الفتوى وساحات القضاء عن قضايا الفكر والتحرك صوب فك الوصاية على الناس وإصدار الأحكام الجاهزة. لكن بدعة التنقيص واستهداف الكبار متأصلان في بعض أنصاف علماء هذه الأمة، فقد حسدت جماعة من العلماء قديما الآمدي الفقيه الأصولي وحملهم التعصب إلى نسبته إلى فساد العقيدة وانحلال الطوية والتعطيل، بل ذهبوا أبعد من ذالك فوقعوا باستباحة دمه، والذي تتوزع مؤلفاته - الأكثر من عشرين مصنفا- بين أصول الفقه وعلم الكلام والمنطق وطرق الخلاف، وكان حنبليا ثم صار شافعيا، وتنقل بين بغداد والشام ومصر مدرسا وقاضيا، وله "أبكار الأفكار" و"دقائق الحقائق" و"الإحكام في أصول الأحكام" ليخرج من آخر تلك الملاحقات مستخفيا، فاستوطن حماة مقيما بطالا في بيته بعد العزل ت 631 للهجرة، نفس الأمر حصل مع سيبويه الذي يعد أعلم المتقدمين والمتأخرين بالنحو ولم ير مثل كتابه، والكل عليه عيال، تشاجر مع الكسائي "كنت أظن أن الزنبور أشد لسعا من النحلة فإذا هو هي" عند سيبويه، أو "فإذا هو إياها" لدى الكسائي، ولأن الأخير معلم الأمين بن هارون الرشيد، وكان ابن الخليفة شديد العناية به، فقد وقف العرب الخلص عندما عقد المجلس واجتمع الأئمة للتعصب للكسائي وتخطئة سيبويه، فخرج من بغداد حاملا في نفسه لما حيك ضده ليصل بلاد فارس ويتوفي في قرية من قري شيراز مهملا سنة 180 للهجرة. وليس المفكر الترابي بدعا في ذالك، وأتمثل هنا: حسدوا الفتي إذ لم ينالوا سعيه فالقوم أعداء له وخصوم. ملأت شخصية الترابي الدنيا وشغلت الناس في العالم الإسلامي وغيره أواخر القرن المنصرم إلى يومنا هذا، وكانت تجربته محك دراسة وتمحيص الغربيين ومتابعي العمل الإسلامي، ويحسب له أنه أفرز خطابا إسلاميا مغايرا، واستطاع المفكر الطموح - في وقت تراجع فيه عطاء الحركة الإسلامية- النهوض بالإسلام الحركي من آثار المحن (مصر، سوريا، تونس) وواقع العزلة وشيوع فكر سيد قطب، والدفع نحو الواقعية والتفاعل بعيدا عن المغالبة والنقمة على ما يدعى "جاهلية المجتمع وتكفير الحكام" ويكاد يكون وحده الذي نجح نظريا في بلورة رؤى فكرية متكاملة ومتفتحة على الآخر وتتسم بالمرونة والواقعية متسلحة بما يمكنها من مواجهة تحديات العصر، رغم أن التطبيق بعد ذالك - حيال التجربة- جاء دون تطلع المتفائلين، ولم يخجل أو تأخذه العزة بالإثم من نقد "ثورة الإنقاذ" لاحقا، والحق أن الترابي سياسي أكثر من كونه مفكرا، إلا أنه مع ذالك فاق السياسيين - ممن يغلب على أكثرهم التبلد والخوف- بالفكر والجرأة، وليته بقي يمارس وينظر في سماء المقاربات والمقارنة والتحليل والسياسة وقضايا العصر، وترك الفتوى وأهلها. انتسب حسن عبد الله إلى الإخوان المسلمين بعد تخرجه من فرنسا 1964 وبالتزامن مع استقالة الرشيد الطاهر المراقب العام لإخوان السودان، ليتم انتخاب الترابي لاحقا زعيما لامتداد جماعة الإخوان المسلمين في السودان 1969 منافسا الزعيم التاريخي صادق عبد الله عبد الماجد. يتميز الترابي السياسي برصيد قل أن يرقي إليه غيره، فقد قضى في السجن محطات طويلة من حياته جاءت دون فترة "مانديلا"، وربت على زمني عباس مدني وعلي بلحاج. في عالم السياسة يناور الترابي كثيرا ويكاد لا يلتزم موقفا ثابتا، ويراوغ ليصل إلى مقصده، ويوصف بالإسلامي "البراغماتي"، كما ذاع عن الشيخ محفوظ نحناح رحمه الله، ويستخدم ما تيسر من الوسائل والحيل لمآربه، ويعيبون عليه "ميكيافيليته" في تبرير غاياته بأي وسيلة عندما يتناقض ويضر بأفكاره، وبوأه ألد خصومه وزارة العدل بعد إحدى محن السجن، وتدرج رغم تباين الخلفيات الفكرية والقناعات السياسية في عضوية المكتب السياسي للإتحاد الإشتراكي حتى غدا النائب الأول للبلاد ثم المستشار الخاص للرئيس، ليقنعه بعد ذالك بتطبيق الشريعة الإسلامية 1973، تحين الفرص فاقتنصها واستغل الأحداث والظروف فوظفها لمصلحته، وكان يخترق ويتسلل ليصنع تحالفات ويبني وسائل وآليات تعز على غيره، ويقاس مشوار السياسي - عادة- بما قدم وأنجز وحقق، لا بما أبرم أو أخفق فيه من محاولات، هذا طبعا في ضوء المصلحة من وجهة نظرنا. والمفارقة أن الإخوان في السودان الذين ترأسهم لفترة، أصدروا بيانا سنة 1977 جاء فيه أن الخلاف بينهم وبين الترابي خلاف في الأصول، ولم تثنه خصومات منافسيه، وطالته جملة من الشائعات رغم شدته على الشيوعيين في بلده ومقارعته لخصوم الإسلام في الغرب وأوروبا، لما يتقن من لغات عديدة وما استكمله من ثقافات ومعارف الأمم الأخرى، ثم استضافته وإيواؤه لقيادات الحركة الإسلامية، وإعطاؤه الأوامر بإطلاق العنان للعربية والتعليم الأهلي والإسلامي في السودان وحصل ذالك فعلا، ثم استقباله للوافدين من أبناء الأمة وطلبة العلم لفتح آفاق الحياة أمامهم. استهدف الترابي الشباب ونادى بتحرير المرأة وخاض في الديمقراطية والشورى كثيرا، وتنبه للمواطنة قبل غيره، وألف "قيم الدين ورسالية الفن" ونظر للجمال في الإسلام، وألح على ضرورة اعتزال كل من تجاوز الستين للعمل السياسي لإعطاء الفرصة لحداث السن. ينظر إليه الكثير من الإسلاميين باعتباره يمثل مدرسة تجديدية إسلامية مستقلة بذاتها، لذا قال عنه الأستاذ: فتحي يكن - الذي يعد أحد القيادات الفكرية والحركية المعروفة للإخوان المسلمين- أقر بأن الترابي بجانب الغنوشي وسيد قطب، مدرسة تجديدية مستقلة بذاتها من ضمن ما أسماه بالمدارس التجديدية للإخوان المسلمين، ويصفه الشيخ: راشد الغنوشي بالعلامة والإمام المجدد. عرف بقوة المبادرة وطول النفس، فقد تحالف في يونيو 1989 مع الجنرال عمر حسن البشير ليطيح بالصادق المهدي زعيم حزب الأمة ورئيس الدولة، بعد أن أسس الجبهة الإسلامية القومية، ومني بالفشل في الإنتخابات الرئاسية، وأسس لاحقا بعد أزمة الصلاحيات والنزاع مع البشير حزب المؤتمر الشعبي وانضم إلى صفوف المعارضة، ثم في ابريل 1999 أسس المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي في مؤتمر ضم ممثلين عن 45 دولة إسلامية وأصبح أمينه العام. يتهمه خصومه بالاستبداد وتجميع السلطات، مما جعل بعض تلامذته وأتباعه ينقلبون عليه، ويرى فيه أنصاره السياسي المحنك، والبارع المؤثر في التنظير، والداعية المفكر، والخطيب الخبير في تحريك الإعلام. للموضوع بقية... تاريخ الماده:- 2006-05-05

الترابي: فوق الزنابق..وتحت المشانق!

الترابي: فوق الزنابق..وتحت المشانق!
www.arabrenewal.com أحمد بن الحافظ - كاتب موريتاني الوسطية مبدأ إسلامي أصيل، يطلب من الكل تبنيه والاتصاف به، ويدَعيه هذا الكل نهجا وطريقا لا يحيد عنه، إلا أن المتتبع لتعاطى أمتنا مع الأحداث ـومهما كان نوعها ومصدرها ـ يدرك نوعا من الحدة يوسع الهوة والمتسع بين واقعنا الحقيقي الملموس، ووسطيتنا المفترضة المزعومة، فنتوزع ـ فى أغلب الأحيان ـ بين الإفراط والتفريط، نهاجم الخارج على آرائنا بكل شراسة وعنف، وندافع عن متبنيها بكل اندفاع وانجراف، وقد لايخلو كلا الأمرين ـ فى بعض الحالات النادرة ـ من الموضوعية رغم المغالات، بحيث تكون الآراء هي حلبة الصراع والمشادة، إلا إنه يظل الطابع المسيطر عكس ذلك. هذا الواقع "المخجل" تختزله وتختصره الضجة الأخيرة التى أحدثتها بعض آراء أو فتاوى الدكتور حسن الترابى، وما تلاها من صيحات وصرخات، تصف الرجل بأقسى النعوت وأغلظ الألفاظ أحيانا، وتوَسِمه بأعظم الصفات وأجلها أحيانا أخرى، لتغيب الحقيقة ـ فى النهاية ـ بعد أن أسدل الانحياز غطاءه السميك على موضوعيتنا الشفافة. لست هنا للدفاع عن الترابي ولا للهجوم عليه، فالتشكلة بأساسيِيها واحتياطيِيها مكتملة، والدخول إلى الحلبة من ذينك البابين يستلزم ـ على الأقل من وجهة نظرى ـ التسلح بأمور ليس أبسطها الشجاعة، واتقاد البصيرة، والوعي العميق ببعض الآليات التى يستدعيها السفر فى مجابات تلك الشخصية المتعددة الأبعاد..وغيرذلك مما لاأملكه ولا أدعيه، إلا أن فضولى وتطفلى يدفعانى للإدلاء بدلوى فى آثار تلك الهزة الفكريةالعنيفة التى ضربت ساحتنا الثاقفية الجامدة منذ أمد بعيد. لقد ظل نتاجنا الفكري المتواضع ـ رغم كل المبالغات ـ رهين تلك الثنائية الموشية بتلك الإقصائية الكامنة فى لا وعينا الثقافي، الرافضة لأي نوع من التفاعل، لتروح الحقيقة رهينة تلك المرايا الموجَهة، ولنروح ـ نحن ـ تائهين، بحثا عن شطآن آمنة، بعد أن ألغمت كل سواحلنا الطويلة العريضة ! إن رحلة مع ذلك الحدث الجلل، وما صاحبه من ردات الأفعال ‘ تكشف عمق ظلمنا لثقافتنا "العالمة" ولسيرورتهاالتاريخية، من خلال وضع تلك الآراء أو الفتاوى ـ كما يسميها البعض ـ فى غير سياقها، ولم تظلم من مناوئيها أكثر من مناصريها، لأن مصدر الظلم لم يكن هؤلاء ولا أولئك، وإنما بعض الرواسب من ثقافة تجمع الكل وتؤويه. إن الذين يدافعون عن الترابي، مضفين عليه نوعا من العصمة، وعلى آرائه بعضا من القدسية، ينسون ـ أو يتناسون ـ أن الترابي نفسه لا يقر بقدسية غير النص {القرآن والسنة} أما الفهم والاستقراء فيخضعان لمنطق الخطإ والصواب، ومن هذا المنطلق سعى جاهداإلى اختراق ذلك الجدار القدسي الذى بنيناه على بشر مثلنا يخطئون ويصيبون، من خلال عباءة الفقيه، مع احترامنا الشديد وتقديرنا له، وهو فى تلك الرؤية يستحضر ـ لاشك ـ مقولة أبى حنيفة الذائعة :"ما جاء عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فعلى الرأس والعين وما جاء عن الصحابة تخيرنا وما جاء عن التابعين فهم رجال ونحن رجال" وكان الأولى ـ تعاطيا مع الحدث فى إطاره السليم، ودفاعا عن الموقف على الطريق العلمي النزيه ـ أن تناقش الآراء ـ أو الفتاوى ـ وفق القنوات العلمية المعهودة عند المتخصصين، من ملاءمة الفهم للمقتضى الدلالي لُلغة، وقصد المشرع.. وغير ذلك، وحينها يمثل الحدث ويجسد رؤية صاحبه المتمثلة فى إمكانية ـ بل وإلزامية ـ مراجعة الفقيه ومناقشته، بعيدا عن الهتاف والصراخ، ليظهر الحق جلياً ويتسنَى الحكم سليما. أما الفريق الآخر فقد تجاوز كل الحدود فى شخصنة القضية، بعيدا عن الفكر والرأي والفقه، فكانت كلماتهم سيوفا تتطاير منها الرؤوس حدا وكفرا، متناولين الحدث من رؤية "تاريخانية" لا تخلو تحاملا، مستشهدين ببعض المواقف والشهادات، وبغض النظر عن موضوعية تلك الشهادات، وحسن نية أصحاب تلك التفسيرات، فإنها ظلت بعيدة عن الحدث، تحوم حول قشوره وبعض مظاهره، بعيدة ـ كل البعدـ عن الإشكالية وعقدتها، فأياً تكن أقوال معاصرى الترابي عنه، وأياً يكن توجه أو انتماء أولئك المعاصرين، فإن الحكمة ـ على الأقل ـ تؤخذ من غير حكيم، كما يصدق الكذوب أحيانا!! بالإضافة إلى أن ما كان ينبغى أن نبحث عنه ونناقشه ـ بالدرجة الأولى ـ هو موقف الفكر والفقه الإسلاميَين الواعيَين بالمرحلة ومتطلباتها، من آراء ذلك الملهم المجدِد، أو شطحات ذلك الملحد المرتد، ولئن كنا عشنا ردحا من الزمن تحت تأثير تخدير المبدإ القائل إن "الحجة لا يغرب" فلوعينا البسيط المشوه بالإغراب وبالحجِية، المبنيَين داخل ذلك الحيِز الضيِق المحكم الإغلاق، وإن الدكتور حسن الترابي ـ ومهماتكن صفته، مفكرا مجددا ملحدا مرتدا ـ فقد أتاح فرصة المراجعة والمناقشة ـ وليس المصارعة ـ لمناوئيه ـ حتى لاأقول شانئيه ـ قبل مريديه، وبالتالى كان يمكن لطرحه أن يكون نواة لمراجعة ثقافية متحضرة وواعية، تعيد تصحيح مسار التاريخ، لكن "الرياح تجرى بما لاتشتهيه السفن" فتخندق الكل أمام أفكاره، متمترسا بالشتم والسباب والإطراء والتقريظ.. والحقيقة أنه كان الأولى أن يجتمع الكل على المائدة، لأننا محتاجون لوقفة صدق مع الذات، لمراجعة الحصيلة التراكمية، المليئة مطبات وشوائب، واضعين نصب أعيننا مقولة الخليفة الرابع علي بن أبى طالب ـ رضي الله عنه ـ "أعرف الرجال بالحق ولا تعرف الحق بالرجال"، مؤمنين بنسبية الحقيقة فى التفسير البشري للنص المطلقة حقيقته، بعيدين عن الشخصنة والشخصانية والتنابز والتساب والتمادح والتزغرد..وغير ذلك من المسلكيات الشائنة غير المتحضرة، فالمعركة ـ بأي شكل من أشكا لها ـ يجب أن تقذف بعيدا عن بيتنا المتصدِع، فكما يقول أحد علمائنا الأجلاء مشكلتنا ليست مع من يؤول "الرحمن على العرش استوى" وإنما مع من ينكر الرحمن والعرش، وفى كل الحالات يجب أن نظل هادئين عقلانيين، غير مندفعين ولا منسابين، كما يحثنا نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ القائل "أحبب حبيبك هونا ما، عسى أن تبغضه يوما ماوأبغض عدوك هونا ما عسى أن تحبه يوما ما" وكما نردد ـ دائما ـ منتشين‘ فخورين، معتزين: لايفسد الخلاف للود قضية! تاريخ الماده:- 2006-05-13