Saturday, May 27, 2006

حول "التفسير التوحيدي" للدكتور حسن الترابي

خطاب الأيديولوجيا

ملاحظات حول "التفسير التوحيدي" للدكتور حسن الترابي

د. عباس محمد حسن

amhi43@yahoo.com

صدر الجزء الأول من كتاب " التفسير التوحيدي " للدكتور حسن الترابي عن دار الساقي شاملاً لمجموعة سور القرآن الكريم من سورة الفاتحة حتى سورة التوبة وبمقدمة فيما أسماه المؤلف " منهج التفسير التوحيدي" ..وقد بذل فيه المؤلف مجهودا ضخما يشكر عليه ... وهو اجتهاد في تفسير القرآن الكريم علي هدى هذا المنهج .. وقد قرأته بشغف واهتمام. فخرجت بهذه الملاحظات وهي ملاحظات اشرت فيها الي ما اثاره المؤلف من جانب و ما أثارته وتثيره دراسات اخري قديمة وجديدة من جانب آخر ويمكن الرجوع اليها للمزيد من الاطلاع والدراسة والتقصي :

يبدأ المؤلف تفسيره لكل سورة من سور القرآن الكريم بخلاصة لهدي السورة وهومنهج نجده كمثال في كتاب الآستاذ سيد قطب " في ظلال القرآن " وفي هذا الجزء من التفسير يبث المؤلف مفهومه هو ونصوص مذهبه كأنها هي المعني الوحيد الأصلي الذي يحتمله هدي السورة حيث يعتقد المؤلف بأن ما يراه هو الأكثر تطابقاً مع الحقيقة.

ان نقد المؤلف لتفاسير القرآن الكريم التي اخذت بأسباب النزول ووصفها بأنها أخذت تفارق وحدة القرآن ذكراً وهدياً للحياة كافة يغفل عن قصد أهمية علم " أسباب النزول " كعلم دال وكاشف عن علاقة الآيات المعينة بالواقع . فمن الحقائق المعروفة ان القرآن قد نزل " منجماً " علي بضع وعشرين سنة وان كل آية أو مجموعة من الآيات نزلت عند سبب خاص استوجب انزالها وان الآيات التي نزلت ابتداء – أي دون علة خارجية – قليلة جداً . وقد ادرك علماء القرآن ان السبب او المناسبة المعينة هي التي تحدد الاطار الواقعي الذي يمكن فهم الآية او الآيات من خلاله . او بعبارة أخرى أدرك علماء القرآن ان قدرة المفسر علي فهم دلالة الآيات لابد ان تسبقها معرفة بالوقائع التي انتجت هذه الآيات. (مفهوم النص) .. وقد قال ابن تيمية: " معرفة سبب النزول يعين علي فهم الآية فان العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب " – ( الاتقان في علوم القرآن) ومن فوائده معرفة وجه الحكمة الباعثة علي تشريع الحكم والوقوف علي المعني وتخصيص الحكم به عند من يري ان العبرة بخصوص السبب وكون اللفظ عاما ويقوم الدليل علي التخصيص ودفع توهم الحصر ( انظر البرهان للزركشي).

في تفسير معاني الآيات فلا يخرج تفسير الترابي عن المزاوجة بين ما جاء في كتب التفاسير المختلفة . وكمثال علي ذلك نورد التالي:

فحين يقول المؤلف ان فاتحة الكتاب هي أم الكتاب التي جمعت معانيه واجملتها في آياتها القليلة العدد يقول ابن كثيرإنما سميت ام الكتاب لرجوع معاني القرآن كله الي ما تضمنته. ويقول الزمخشري : تسمي ام القرآن لاشتمالها علي المعاني التي في القرآن.

ويقول المؤلف : " لقد أطلق عليها بآياتها السبع اسم السبع المثاني .. واصبح مثني بها ركعة بعد ركعة .. " تقول حاشية الكشاف للزمخشري : " والمثاني لأنها تثني في كل ركعة بمعني انها تكرر في كل ركعة " ويقول سيد قطب " لأنها تثني بها وتكرر في الصلاة".

يقول المؤلف:" فالمؤمن العابد يولي وجه ربه الواحد بكل حركة وسكون في حياته فيشرعها باسم الله قاصدا قائلاً " أقوم باسم الله ،أقعد باسم الله، آكل باسم الله ، أنام باسم الله ... " ويقول الزمخشري " ... وكان المعني بسم الله احل وبسم الله أرحل للمسافر إذا حل أو إرتحل وكذلك الذابح وكل فاعل يبدأ في فعله ببسم الله كان مضمراً ما جعل التسمية مبدأ له " .. ويقول سيد قطب : " .. فباسمه اذن يكون كل ابتداء وباسمه اذن تكون كل حركة وكل اتجاه."

ويقول المؤلف :" الله هو الاله المعهود الأوحد .. والاسم إله منصرف من الوله بمعني الانعطاف بعد الحيرة والشفقة .. " ويقول القرطبي فيما نقله ابن كثير :" الله هو مشتق من وله اذا تحير .. "

ويقول المؤلف في مالك يوم الدين : ملك في قراءة ومالك في قراءة أخرى والاولي أرجح تعريفا لامع كلمة " الملك " بل كلمة " الملك " التي وردت في آيات القرآن منسوبة الي الله ، له ملك السماوات والأرض – بضم الميم – " ... والمالك قد لا يملك مطلق التصرف فيما يملك لا كالملك – بفتح الميم " ويقول ابن كثير:(قرأ يعض القراء"ملك يوم الدين") وقرأ آخرون "مالك" وملك مأخوذة من الملك كما في قوله تعالي ( لمن الملك اليوم للواحد القهار ) وقوله الحق وله الملك ويقول الزمخشري : قرئ ( ملك يوم الدين : ومالك وملك ) بتخفيف اللام – وملك هو الاختيار لأنه قراءة أهل الحرمين ولقوله – لمن الملك اليوم – ولقوله ملك الناس ولأن الملك يعم والملك يخص ...

ويقول المؤلف في " الم " ان الألف بهمزها من الحروف الحلقية واللام لسانية بينما الميم شفوية وهي حروف متوالية تمثل كل مخارج النطق للحروف العربية .. وقد ذكر ذلك الزركشي في البرهان فقال : " ان الألف اذا بدء بها أولا كانت همزة وهي أول المخارج من أقصي الصدر واللام من وسط مخارج الحروف وهي أشد الحروف اعتمادا على اللسان والميم آخر الحروف ومخرجها من الفم . وهذه الثلاثة هي أصل مخارج الحروف أعني الحلق واللسان والشفتين. ولكن كل ذلك تأويل ( بمعني الاستنباط ) لأن هذه الدلالات التي ذكرها الترابي أو الزركشي أو الزمخشري هي دلالات اضافتها الثقافة علي هذه الحروف بعد تطور فهم البناء اللغوي – فهناك تقسيمات مختلفة للحروف فقد ذكر الزمخشري مثلاً ان أصناف أجناس الحروف هي: المهموسة والمجهورة والشديدة والمطبقة والمستعلية والمنخفضة وحروف القلقلة – كما أن الباقلاني قد أشار الي تقسيم أهل العربية للحروف علي وجوه مختلفة منها انهم قسموها الي حروف مهموسة واخري مجهورة وكذلك قسموها الي ضربين : أحدهما حروف الحلق وغير حروف الحلق وكذلك تقسيمها الي :حروف غير شديدة وحروف شديدة غير أنه قد حدثت تطورات كبيرة في تقسيم الأصوات الآن مخالف لتقسيم القدماء الذين كانوا يعتمدون على مجرد الملاحظة المباشرة اضافة الي تطور نطق بعض الأصوات في اللغة الحديثة (مفهوم النص ). ويقول المؤلف : " ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين " : ذلك : اشارة الي الابعد بحرف خطاب وهي اشارة الي رفعة القرآن ، ليس بعداً عن الانسان بل خطاب يعليه للقارئ منذ الرسول – صلي الله عليه وسلم – هو نفس المعني الوارد بحاشية الزمخشري " ذلك الكتاب " : ان قلت لم صحت الاشارة بذلك الي ماليس ببعيد .. الخ " قال أحمد رحمه الله : ولأن البعدهنا باعتبار علو المنزلة وبعد مرتبة المشار إليه( القرآن ) من مرتبة كل كتاب سواه ونكتفي بهذه الأمثلة على اعتماد المؤلف في تفسير معاني الآيات علي كثير مما ورد في التفاسير المختلفة.

والأصل الاشتقاقي لكلمة تفسير هي من سفر ويتفرع منها دلالة الكشف والظهور ( سفر الصبح واسفر : أضاء) كما يرتبط بدلالة الكشف والبيان فالسفر بكسر السين هو الكتاب واذن فالتفسير هو الكشف عن شئ مختبئ من خلال وسيط ويقول الزركشي في البرهان " واما التفسير في اللغة فهو راجع الي معني الاظهار والكشف وأصله في اللغة من التفسرة وهي القليل من الماء الذي ينظر فيه الأطباء ، فكما ان الطبيب بالنظر فيه يكشف عن علة المريض فكذلك المفسر يكشف شأن الآية وقصصها ومعناها والسبب الذي انزلت فيه ... فالتفسير كشف المغلق من المراد بلفظه واطلاق للمحتبس عن الفهم به ... "

يغلب على التفسير النقل والرواية بينما يرتبط التأويل بالاستنباط وهنا يلعب المؤول دورا مهما فاذا لم يلتزم بأصول علم التفسير واذا اخضع الآيات لأهواء الذات وميوله الشخصية وايدولوجياته واستعمال دلالات ومغزي لا يمت الي الآيات بصلة وانما يستخدمه لخدمة ايدولوجياته بصرف النظر عن المعطيات اللغوية والمفهومية. فقد جاء بتأويل غير مقبول يعتبره القدماء تأويلاً محظوراً ومكروهاً ومخالفاً لمنطوق الآيات ومفهومها....

ان المفسر يقف عند حدود علوم القرآن وعلوم اللغة يعتمد في معرفة الأولي علي الرواية ويعتمد في معرفة الثانية علي جهد علماء اللغة المتخصصين في ميادين الصيغ الصرفية ودلالاتها ودلالة الألفاظ المفردة ومدلولاتها وكيفية الاشتقاق والتصريف اللغوي وقوانين النحو والاعراب وعلوم البلاغة ( من معاني وبديع وبيان ) وعندها يصبح قادراً على اكتشاف دلالة الآيات ويصبح مفسراً ( مفهوم النص) ..

يري المؤلف ان التفسير الصادق ينبغي ان يخاطب عصره بلغة عربية يفهمها الخلف ولكن المؤلف لم يلتزم بذلك ولم يخاطب الناس بما يفهمونه من لغة بسيطة سهلة فانظر الي بعض هذه الأساليب اللغوية التي استخدمها المؤلف : " .... وكيف ارادوا القيادة له عن ارث وثروة لا عن كفاية ، وكيف تعرضوا لفتنة تراخي النفير تلبثاً عند نهر عارض .. " أو " ... كان الأحرار – عن اعراف العرب الجاهلية – يتفاضلون لا يتكافئون قصاصاً ... " أو " ... يبتغونهم فخمه – في جانحة من فرسان قريش ..." وبدلا من ان يجد القارئ نفسه امام تفسير سهل لمفردات لآيات القرآن الكريم فان عليه ان يجد تفسيراً لمفردات التفسير !! لقد نقل القرآن الكريم اللغة العربية من طور الي طور وحولها من لغة شعر الي لغة دين وأهلها لتكون في مرحلة ثانية لغة حضارة وكان لها قاعدة انطلاق ثم واجهت تحدي الترجمة في العصر العباسي ونجحت في ذلك ولبت احتياجات الادارة والدواوين بما تقتضيه من مصطلحات تقنية متخصصة ثم تغلبت على نكسة عصور الانحطاط بسجعه المتحزلق واستعادت مرونتها ونزعت عنها اثقال الزخارف المصطنعة وانفسح المجال لآلاف الالفاظ المعربة والدخيلة والعامية بعد شئ من الصقل لتحتل مكانها بين الالفاظ الأصلية وزال قدر كبير من التحرج في المصطلح النحوي والصرفي وحدث قدر كبير من التساهل في الصيغ والتراكيب فشاعت في العربية المكتوبة اساليب جديدة ( تمت بصلات الي العامية والي اللغات الأوربية ) واهم من هذا كله ان اللغة العربية اقتحمت ميادين الثقافة كلها من علوم وآداب وفنون ودارت المطابع في شرق الوطن وغربه تصدر آلافاً من صحف يومية ومجلات اسبوعية وشهرية وتضخمت المكتبة العربية الحديثة تأليفاً وترجمة تضخماً هائلا ثم استفادت اللغة العربية من تعميم التعليم ومن ثورة وسائل الاتصال الجماهيري فواصلت تطورها وتوالت عملية التأصيل اللغوي ليس فقط من خلال الترجمة والتعريب بل كذلك من خلال التجديد في الاشتقاق وفي التوليد الدلالي . فكلمة " سيارة " القرآنية مثلا قد انزاحت دلالتها من " جماعة المسافرين " الي وسيلة السفر الحديثة المعروفة وقل مثل ذلك في كلمة " مجتمع " و " دولة " و " قطار " و " هاتف " و " دراجة " ...ودخلتها عن طريق الترجمة والتعريب الآلاف من الالفاظ الجديدة وامتد التطور من الألفاظ الي التراكيب والبنية . وقد تسني لاختصاصي معاصر في اللغة العربية ( ابراهيم السامرائي : اللغة والحضارة ) ان يرصد ويحصي المئات من التراكيب والأساليب اللغوية المستجلبة والمستزرعة في تربة اللغة العربية ( تحت تأثير الترجمة والتي تتردد بايقاع لغة الصحافة العربية ) واذن فليس من المعقول ازاء كل هذا التطور في اللغة العربية ان يحاول كاتب الآن ان يكتب بلغة الاعراب في الجاهلية .. وهل يستطيع الناطق المعاصر بالعربية ان يفهم لغة الشعر الجاهلي بدون وساطة شارع أو قاموس ( اشكالات العقل العربي) فما الفائدة اذا كان قارئ التفسير التوحيدي يستعين بالقاموس لفهم التفسير !!

ملاحظة المؤلف حول افراط بعض المفسرين في بيان الحقائق العلمية حيثما ورد ذكرها في القرآن الكريم حيث اشار الي انه لم يتنزل الوحي ليعلم الناس اقدار الطبيعة اللازم قضاؤها ... الخ وهي ملاحظة صحيحة كان الاستاذ عباس محمود العقاد قد اشار اليها في كتابة " الانسان في القرآن) حيث يقول " فهل من الواجب علي المؤمن بالقرآن ان يلتمس فيه تأييدا لأصحاب " النظريات " والفروض في كل عصر يظهرون فيه ؟ نقول " كلا ولا ريب " لأنها قد تثبت كلها أو بعضها ، وقد يطرأ عليها النقض أو التعديل بين جيل وجيل ، ولكن القرآن يعمل عمل الدين الصالح اذا سمح للعقل ان يلتمس الحقيقة مع كل فرض من الفروض وترك له ان ينتهي بها الي نهاية شوطه مسؤولا عن نتيجة عمله وعما يفيد أولا يفيد من جهوده ومحاولاته فليس من عمل الدين ان يتعقب هذه الفروض والنظريات في معرض الجدل لتأييد تفسير أو خزلان تأويل وحسبه ان يملي للعقل في عمله ولا يصده سبيله فهذا هو الوفاق المطلوب بين العقيدة والبحث وبين الايمان والتفكير – فاذا أخطأ من يقحم القرآن في تأييد النظرية العلمية قبل ثبوتها فمثله في الخطأ من يقحم القرآن في تحريمها وهي بين الظن والرجحان وبين الأخذ والرد في انتظار البرهان الحاسم من بينات العقل أو مشاهدات العيان."

وقد أفرط بعض الباحثين أو المفسرين في محاولة التماس بعض النتائج لفروض افترضوها فقد عمد أحد هؤلاء الي تسخير الحاسبات في احصاء حروف القرآن وكلماته وخرج بنتيجة تقول: كلمة " الشهر " تكررت في القرآن 12 مرة أي بقدر شهور السنة : وفي الحقيقة فان كلمة الشهر بهذه الصيغة لم ترد سوي 6 مرات. كلمة " اليوم " تكررت 365 مرة أي بقدر عدد أيام السنة وفي الحقيقة وردت كلمة اليوم 480 مرة. قوله تعالي :" هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا" : أي ان نور القمر هو نور الشمس بعد انعكاسها . والحق ان انعكاس ضوء الشمس علي القمر لم يكن سرا علمياً بل كان حقيقة شائعة جدا قبل نزول القرآن الكريم بألف سنة علي الاقل . فمنذ القرن الخامس قبل الميلاد كان اناكساغورس قد اعلن " ان القمر ليس جسما وهاجاً بل كوكب يستمد نوره من الشمس".

قوله تعالي :" والأرض بعد ذلك دحاها" : تورد في معرض التدليل على ان القرآن قد سبق بتحديد شكل الأرض شبه الكروي مؤكدين على أن كلمة دحاها تعني جعلها كالدحية ( وهي بيضة النعام ) .. وهذا التفسير ليس له وجه في اللغة ... فكلمة دحاها تعني فقط بسطها ومدها ... وقد اطلق العرب اسم ( الادحية ) على المكان الذي تبيض فيه النعامة وليس بيضها . والدحية بكسر الدال هو رئيس الجند . والدحية بفتح الدال هي انثي القرد – كما ان كروية الأرض في عصر القرآن لم تكن نظرية معروفة فحسب بل كانت حقيقة علمية لا جدال فيها وكان الفلكيون في اثينا والاسكندرية قد قاسوا محيطها بفارق قدره مائتي ميل فقط عن القياس المعتمد الآن ( انظر الصادق الينهوم وول ديورانت ) ... ان القرآن الكريم يدعو الناس الي التدبر في آيات الله ويدعوهم الي العلم وان الوحي كما قال المؤلف الدكتور الترابي :" تنزل ليبين للناس ما هم فيه مختلفون من عقائد الحياة الغيبية التي لا يبلغهم الحق فيها الا وحيا ... " انه " بيان للناس " .

ولعل مما يلفت النظر ان المؤلف يزعم ان منهج تفسيره التوحيدي هو منهج لا فكاك منه لكل اجتهاد في تفسير القرآن مما يعني أنه التفسير الذي ينهج النهج الصحيح وحده من دون التفاسير الاخرى وان شرحه هو الأصح والاقرب الي روح القرآن الكريم أو الي ظاهره بيد ان التاكيد على احقية تفسير من التفاسير ، وحده دون غيره ، لا يعني محاولة استبعاد التفاسير الأخرى فحسب بل يعني ان هذا التفسير هو حقيقة الحقيقة وهو الذي نفذ الي اعماق القرآن الكريم واستخلص جوهره ( نقد الحقيقة ) .. ولكن ميزة القرآن الكريم الاتساع بل أن اعجازه يكمن في كونه يتسع معناه اتساعاً عظيماً فهو يحوي : الناسخ والمنسوخ والظاهر والباطن والمحكم والمتشابه والحقيقي والمجازي والمجمل والمفصل والعام والخاص والحسي والمثالي والشاهد والغائب والواحد والكثير والعقل والنقل والامر والنهي .. وفي اللغة العربية التي نزل بها القرآن دوما مجاز وفي المجاز تخيل وترميز ... وقد نص القرآن علي التاويل وهو يحتمل التأويل ولا تكتنه معانيه الا بالتأويل .. قال تعالي : " هو الذي أنزل اليك الكتاب فيه آيات محكمات هن ام الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله الا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا " .. ويمكن الرجوع الي رواية الطبري عن ابن عباس - رضي الله عنه - في تعريفه للمحكم والمتشابه .. فقد كان ابن عباس يقول عن نفسه :(أنا ممن يعلم تاويله ) ..

وتأويله يعني ان هناك ترجيح ومفاضلة وكل تفسير هو وجه من وجوهه ومستوي من مستويات فهمه .. واي محاولة لجعل تفسير واحد للقرآن هو التفسير الوحيد الصحيح فهي محاولة مخادعة لا تعني سوي احتكار المعرفة والاستبداد السياسي والارهاب الفكري .. واختلاف التفاسير جاء بسبب اعجاز القرآن حيث تتسع معانيه وتتعدد وجوه الدلالة فيه فهو لا يمكن استقصاء معانيه أو حصر دلالاته ولا يمكن لأحد ان يقبض او يفوز بجميع حقيقته ومن هنا جاء تباين التفاسير والتاويلات واختلاف الطرق والمذاهب وتعدد الفرق والمقالات..( نقد الحقيقة )... قال الزركشي في البرهان :" لا يستقصي معانيه فهم الخلق ولا يحيط بوصفه على الاطلاق ذو اللسان الطلق وهو بحر لا يدرك غوره واعيت بلاغته البلغاء واعجزت حكمته الحكماء وابكمت فصاحته الخطباء وعلوم القرآن لا ينحصر ومعانيه لا تستقصي وقد اكثر الناس فيه من الموضوعات ما بين مختصر ومبسوط وكلهم يقتصر على الفن الذي يغلب عليه – فالزّجّاج والواحدي في " البسيط " يغلب عليهما الغريب .. والثعلبي يغلب عليه القصص والزمخشري علم البيان والامام فخر الدين الرازي علم الكلام وما في معناه من العلوم العقلية ويقول الطبري :" تشتمل علوم القرآن" علي ثلاثة اشياء : التوحيد والاخبار والديانات ولهذا قال صلي الله عليه وسلم ( قل هو الله أحد ) تعدل ثلث القرآن.

وصحيح طبعاً ان الاسلام بما هو معتقد وشرع عامل جمع وتوحيد وانه دين توحيد كما قدم نفسه دائماً وكما عقله اهله وهو امر مافتئ علماء الملة يؤكدون عليه منذ البداية حتى اليوم اي منذ المتكلمين الاوائل حتى " رسالة التوحيد " لمحمد عبده. فالكل مجمعون على ان الاسلام يوحد ولا يفرق .. وهو يوحد بين البشر جميعاً اذ القرآن هو خطاب للانسان في كل زمان ومكان ولكن على الرغم من الدعوة الي التوحيد باسم الله الواحد الأحد الا ان القرآن الكريم كان وسيظل فضاءا واسعا للتاويلات المتعددة ولا يمكن لأي تفسير او تأويل ان يستنفذه او يغلقه بشكل نهائي وما يقوله المؤلف اذن هو اقرب الي خطاب الايدولوجيا فالقرآن الكريم هو شرع ومعتقد ودعوة الي الهداية والرشاد وينطوي على احكام وقواعد اي يتضمن معايير للتقويم والتصنيف فهو يصنف الاشياء والافعال بين حلال وحرام وحسن وسئ وطيب وخبيث كما يصنف الناس بين مسلم وغير مسلم ومؤمن وكافر وبر وفاجر وصالح وفاسد .. فلا يمكن اذن قولبة القرآن في نسق جامد او مذهب صارم ولا يمكن النظر اليه نظرة وحيدة الجانب (نقد الحقبقة ومفهوم النص ) .. وما فعله سيد قطب في " ظلاله " وما يفعله الترابي في تفسيره التوحيدي هو محاولة لقولبة القرآن وتجميده عند نظرة واحدة ومذهب جامد كان عند سيد قطب : " النظر من علو الي الجاهلية التي تموج في الأرض " وتربية الجماعة المسلمة لأداء دورها المقسوم وذلك بالبلاء ليصلب عودها .. وامتحان التصميم على معركة الحق بالمخاوف والشدائد .. ولابد من هذا البلاء ليؤدي المؤمن تكاليف العقيدة – وهو اتجاه واضح للانتقال من بيان تلك التربية عند الجماعة المسلمة في المدينة وهي مقبلة علي جهاد شاق – لتعميم ذلك لضمان تكوين جماعة المسلمين زمن سيد قطب على نفس الاسس ليخوض بهم معركته مع الجاهلية الجديدة .. " وهي نفس إسقاطات الترابي للمصطلحات السياسية الحديثة مثل " تطور الحملات المضادة " والمحاصرة والمقاطعة الاقتصادية ونقص اموال التجارة علي ابتلاءات الله للسائرين في سبيله منذ ما واجهه المسلمون الاوائل .. وذلك ايضاً حتى يسهل عليه اعداد جماعته لمواجهة ما يمكن ان تتعرض له – او يتعرض له مشروعه – من محاصرة ومقاطعة اقتصادية او نقص اموال التجارة ..!! وكل ذلك ليس سوي خطاب ايدولوجي بامتياز.

10- الفرق بين دلالة مصطلحي التفسير والتأويل هو كما يقول جلال الدين السيوطي والزركشي ان التفسير هو شرح معاني الكلمات المفردة والرجوع الي اقوال السلف وان التأويل هو استنباط دلالة التراكيب بما تتضمنه من حذف واضمار وتقديم وتأخير وكنابة واستعارة ومجاز .. الخ – ويدخل في باب مصطلح التاويل الذي راج منذ القرن الرابع الهجري " العاشر الميلادي " الجنوح عن المقاصد والدلالات الموضوعية في القرآن الكريم والدخول في اثبات افكار وفلسفات عديدة من خلال تحريف عمدي لدلالات ومعاني المفردات والتراكيب القرآنية – ولعل في عبارة الامام على كرم الله وجهه حين رفع الامويون المصاحف على اسنة الرماح طالبين الاحتكام للقرآن ، الأمر الذي أحدث انشقافاً في صفوف جيشه .. قال الامام علي :" بالامس حاربناهم على تنزيله واليوم نحاربهم على تأويله ". وهي عبارة تريد ان تلفت النظر الي ان هؤلاء القوم من بني أمية يحاولون اليوم التلاعب بالتأويل بعد ان كانوا في سنوات سابقة يرفضون التنزيل.

11- والمجتهد اياً كان مبلغ علمه وفهمه يصدر عن ظن فيما يراه او يستنبطه ولا يمكن له ان يبلغ اليقين ، اذ لا أحد يبرأ من الخطأ والوهم والنسيان ولا احد يبرأ من النقص والهوي والاختلاف. ولهذا كان بعض علماء الاسلام لا يجزمون ولا يقطعون بل ينهون مباحثهم أو مقالاتهم بعبارة " والله أعلم " – ولعل هذا ما يفسر لنا قول الشافعي – رحمه الله – " رأيي صواب – يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب".

( انظر الزركشي – السيوطي – الزمخشري – ابن كثير – محمد عبده – سيد قطب –عباس محمود العقاد – الصادق النيهوم – لطفي عبد البديع – علي حرب – نصر حامد ابو زيد ).

الدكتور عباس محمد حسن

www.sudanile.com

ليسوا اخواناً وليسوا مسلمين 1

مسارب الضي
ليسوا اخواناً وليسوا مسلمين: 1
الحاج وراق
فقدان بوصلة سياسية أم نور الحكمة؟!
أثارت تصريحات د.الترابي لقناة (العربية) ردود فعل واسعة ومتعددة، من شتى الأرضيات الفكرية والسياسية، وأما الاسلاميون فقد غلب على ردود فعلهم (التهرب)، خصوصاً لدى الاسلاميين (الوطنيين)، واتخذ التهرب عدة دروب، منها التهرب بازاحة القضية الأصلية الى قضايا فرعية، من نوع ان د.الترابي فقد البوصلة السياسية، رغم أن موضوع النزاع ليس التكتيك السياسي وانما بالأساس موضوع الاخلاق في السياسة!!
وقد انتبه الى ذلك بحق د.حيدر ابراهيم فأرجع المناقشات الى أصلها الاخلاقي. او التهرب بالتساؤل عن إثباتات د.الترابي في حديثه عن اغتيال المنفذين لاحقاً، كأنما القضية الأصلية هناك، او كأنها محض قضية جنائية!أو التهرب من الموضوع الأخلاقي الأساسي، وهو هل يجوز اغتيال رئيس دولة أخرى، الى موضوع اخلاقي ثان، وهو جواز أن يتحول قائد حركة سياسية ما الى شاهد ملك في مواجهتها؟ او جواز ان يفشي اسرارها؟
وعلى أهمية هذه القضايا الاخلاقية، فلا يمكن مناقشتها إلا بمناقشة الموضوع الأخلاقي المركزي، وهو هل تجوز الاغتيالات السياسية؟ وهل يجوز اغتيال رئيس دولة أخرى أم لا؟!
ومن دروب التهرب كذلك، تصريح د.مصطفى عثمان اسماعيل بأن (الملفات) التي أثارها د.الترابي ملفات قديمة، وقد تمت تسويتها منذ زمن بعيد! وربما يكون ذلك صحيحاً من وجهة الاستحقاق الجنائي الدولي، أو من الوجهة الدبلوماسية، أو من جهة العلاقات السودانية المصرية، وبالطبع لا يمكن أن (نفتي) في مثل هذه (التسويات) غير المعلنة وغير المعروفة، ولكن في حال حدوثها فعلاً، فلأهل السودان حق معرفة الشروط والاثمان التي تمت التسوية على أساسها(!) ولكن الأهم من كل ذلك، أن مثل هذه الملفات لا يمكن تسويتها تسوية حقيقية سراً، وإلا فما الضمان ألا يكرر نفس الأشخاص محاولة الإغتيال مرة أخرى؟
وما الضمان بألا يفكر ذات الاشخاص، ماداموا بذات النفسية والعقلية اللتين ألهمتا محاولة الاغتيال تلك، ان يفكروا في اغتيال آخرين، اسهل منالاً من الرئيس مبارك، واغتيالهم لا يكلف أثماناً كاغتيال الرئيس المصري، كأن يغتالوا سلفاكير او الصادق المهدي، او محمد عثمان الميرغني، او محمد ابراهيم نقد؟! واذا اقتنعنا بأن الاشخاص الذين دبروا محاولة اغتيال الرئيس مبارك، قد أقلعوا وتابوا عن مثل تلك الفعلة، فما الضمان بألا يكرر أشخاص آخرون من ذات الحزب والمعسكر الفكري السياسي مثل هذه الأفعال لاحقاً؟!
إن أسئلة كهذه لتؤكد بأن مثل هذه الملفات لا يمكن تسويتها نهائيا إلا بتجاوز النفسية والعقلية اللتين أديتا إليها. ولكن التجاوز يشترط النقد، وبالتالي التساؤل والفحص والمراجعة، هذا بينما يريد (الوطنيون) الدغمسة، وحرف المناقشة الى القضايا الفرعية، مما يشير الى أنهم لايزالون محكومين بذات النفسية والعقلية اللتين أديتا الى تلك الأفعال، بل انهم لايزالون يرفضون مجرد التساؤل دع عنك إعادة النظر في المنطلقات التي أدت الى محاولة الاغتيال الفاشلة تلك؟
وكذلك لا يمكن تجاوز قضية بمثل هذا الحجم، بالاستهبال، أو الاحتيال، وهذا ما يدفع باتجاهه د.الترابي، وسأناقشه لاحقاً، كما لا يمكن تجاوزها بمجرد التسامح وعفا الله عما سلف، وذلك لأن تسامحا (مجانياً) يتعامى عن الاسباب والجذور والارتباطات والتداعيات، لا يمكن أن يدفع نحو الاصلاح، وانما سيدفع الى تكرار ذات الموبقات!لمحاولة إغتيال الرئيس مبارك جذورها الاخلاقية والفكرية والسياسية، ولا يمكن عزلها عن مجمل المناخات التي تشيعها الحركة الاسلامية وسط عضويتها ومؤيديها، كما لا يمكن عزلها كذلك عن سلسلة الاحداث التي سبقتها او تلك التي لحقتها وتفرزها ذات المناخات والعقلية، وبالتالي فلا يمكن عزلها عن مكانة العنف في ايديولوجية الاسلاميين، أو عن انقلاب الانقاذ، ولا عن ممارسات بيوت الاشباح، او عن احراق دارفور، واحراق جامعة أم درمان الاسلامية!
وما دامت المناخات التي قادت إلى محاولة الاغتيال الفاشلة سائدة لم تطهر بالنقد والمراجعة، فانها ستظل هناك، وحتى حين لا تمارس لأسباب عملية، فانها لا تختفي وانما تظل كامنة وقابلة للانفجار من جديد كلما وجدت بيئة مناسبة! والشاهد على ذلك مفردات خطاب التعبئة التي استخدمتها الانقاذ مؤخراً ابان رفضها للقوات الدولية في دارفور، فخلاف الحديثة عن (مقبرة) الامريكان وتكرار (دنو العذابات)، وهذا مما يمكن فهمه كأدوات في الحرب النفسية ورفع الروح المعنوية للأنصار، إلا ان الخطاب قد انزلق الى ذات مناخات محاولة الاغتيال الفاشلة، مناخات التحريض على العالم، وغياب الحكمة في إدارة العلاقات الدولية، ومناخات الذهول عن حقائق القوة في العالم المعاصر، أي مناخات
(لولحة الكرعين قبل وضع السرج)!
بل ان حواف الخطاب قد وصلت الى مدى بعيد، كالتلويح بالذبح للاجانب، وتهديد المعارضين والكتاب والصحفيين بالاغتيالات ومواجهة مصائر الحريري وغسان تويني ومي شدياق(!) بل والتلويح بادخال او دخول القاعدة، ووضع جائزة على رأس يان برونك!!
وهكذا، فالواضح ان الغول لم يمت بعد، فدماؤه التي تحدث عنها د.حيدر ابراهيم لاتزال تملأ شرايين وأوردة الانقاذ، وبدون اكسجين النقد، ومن رئة مناقشة واسعة وسط الرأي العام السوداني، فإن هذه الدماء المؤكسدة ستظل تنتج الكثير من اعراض التسمم والادواء!
والاغتيالات السياسية ليست جديدة على الاسلاميين، بل ان صيحة د.الترابي الاخيرة المتبرئة والقاضية بان من دبروا المحاولة الفاشلة قد دبروها على مسؤوليتهم الشخصية(!) هذه الصيحة نفسها ليست جديدة على الاسلاميين، فقد سبق وأطلقها مؤسس حركة الاخوان المسلمين، الشيخ حسن البنا، في سياق شبيه، في مصر، حيث أسس جهازاً سرياً أمنياً عسكرياً اسماه الجهاز الخاص، وشكله من أكثر العناصر اخلاصاً واستعداداً للقتال، وتعهد تربيتها بالروح (الجهادية) وعلى السمع والطاعة، ثم دربها وسلحها، ولكن، وبسبب طبائع مثل هذه الاجهزة السرية فقد خرجت تدريجيا عن الطوع، وعن ولاية المرشد العام، الى ان وقعت الواقعة في 8 ديسمبر 1948م حين قام احد أعضاء الجهاز الخاص ـ طالب في الثالثة والعشرين من عمره يدعى عبد المجيد أحمد حسن ـ باغتيال رئيس الوزراء المصري محمد فهمي النقراشي، فدارت ماكينة العنف الرسمي ضد الاخوان، فتفككت قيادة الجهاز السري، وبدأت عضويته تتفلت تضرب يمنة ويسرى، الى أن اضطر حسن البنا الى اصدار بيانه الشهير: ليسوا اخواناً وليسوا مسلمين)،
ويقول فيه:(... فشعرت ان من الواجب ان اعلن، ان مرتكب هذا الجرم الفظيع وامثاله من الجرائم لا يمكن ان يكون من الاخوان ولا من المسلمين لان الاسلام يحرمها والاخوة تأباها وترفضها....)
الى أن يقول:
واني لأعلن انني منذ اليوم ساعتبر اي حادث من هذه الحوادث يقع من أي فرد سبق له الاتصال بجماعة الاخوان موجهاً الى شخصي ولا يسعني ازاءه الا ان اقدم نفسي للقصاص واطلب من جهات الاختصاص تجريدي من جنسيتي المصرية التي لا يستحقها الا الشرفاء الابرياء، فليتدبر ذلك من يسمعون ويطيعون.
تلك كانت من كلمات البيان الذي اختتم به حسن البنا حياته الفكرية والسياسية، وحين اصدر بيان (الختام) هذا، فان رصاصات الاغتيال او قل رصاصات (الختام) التي انطلقت في 12 فبراير 1949م من ذات القوى التي كانت تستقوى به وبالاخوان المسلمين وجهازهم السري، لم تكن الرصاصات سوى تحصيل حاصل!اذن فانها ذات الصيحة، وذات الكلمات «ليسوا اخواناً وليسوا مسلمين»
لانها ذات المسيرة، لذات التنظيم الأمني السري
وما أكثر العبر وما أقل الاعتبار

ليسوا اخواناً وليسوا مسلمين: 2

مسارب الضي

ليسوا اخواناً وليسوا مسلمين:

الحاج وراق

فقدان بوصلة سياسية أم غياب نور الحكمة؟! «2»

أن يكرر حسن الترابي ذات صيحة التبرؤ التي ختم بها حسن البنا حياته الفكرية والسياسية، فذلك مما يؤكد بأن القضية أكبر من كونها تتعلق بأشخاص انحرفوا عن التنظيم أو (فتنتهم شهوة السلطان)، كما يكرر د.الترابي، ويحلو له تصوير القضية هكذا، بوصفها انحراف اشخاص، فمثل هذا التوصيف، وكما هو واضح، يهدف الى اعفائه من مسؤوليته الشخصية فيما حدث، وكذلك اعفاء حركته من مسؤوليتها السياسية والمعنوية، وواضح عدم دقة ذلك من الزاوية المنطقية المحضة، لأنه اذا سلمنا بأن المسألة مسألة انحراف اشخاص، فإن حركته لم تمتلك الكوابح الكفيلة بتقييد هؤلاء الاشخاص، بل ولم تمتلك الضوابط اللازمة لمحاسبتهم، ما يضعها كحركة تحت المسؤولية الاخلاقية والمعنوية، وبالتالي يقع على قائدها الاول - الترابي - ذات ما يقع عليها كحركة!

ثم انه إذا سلمنا بأن الرئيس البشير لم يكن على علم بمخطط الاغتيال، بحكم التراتبية الباطنية القائمة حينها، والتي تضع الترابي وفريقه فوق الرئيس المعلن، اذا سلمنا بذلك، فانه في المقابل، تثور شكوك قوية حول امكان تدبير عملية بحجم التخطيط لاغتيال رئيس دولة، دون ان يؤخذ رأي الترابي فيها، ودون اخطاره، ودون علمه!

وفي حال حدوث ذلك بالكيفية التي يريدنا الترابي تصديقها، فانه مطالب بالاجابة عن طبيعة هذه الحركة التي يسمح بنائها الداخلي لأشخاص قلائل بتضليل قيادتها، واستخدام قدراتها التنظيمية والامنية في مخطط لم توافق عليه الحركة، ويُدعى بأنه يتعارض ومنطلقاتها، ورغم كل ذلك، لا تفشل هذه الحركة في ايقاف مخططات هؤلاء الاشخاص، وحسب، وانما تفشل كذلك في محاسبتهم وعزلهم

ان د. الترابي حين يدعي بأن الامر لا يتعدى الاشخاص الى مسؤولية التنظيم ومناخاته الفكرية والنفسية، يفشل في الاجابة على اسئلة من قبيل: من أين أتى هولاء الاشخاص؟! وكيف استطاعوا استخدام قدرات وموارد التنظيم دون عوائق ودون عقاب؟! مما يحيل مرة اخرى الى مسؤولية التنظيم والى طبيعة بنائه الداخلي غير الديمقراطي، فأما إذا أجاب بأن اولئك الاشخاص قد (خانوا) التنظيم، كما يحلو للترابي تصوير الأمر، فان هذا يحيل من جديد الى (تربية) التنظيم، والى ضعف المؤسسات والنظم التي سمحت بتمرير الخيانة!

والأهم ان الحديث عن الخيانة يحيل الى القضية الاخلاقية الاساسية التي يتهرب منها د. الترابي، تماماً كما يتهرب منها تلامذته في (الوطني)! ان الالتزام بنظم ولوائح اي تنظيم سياسي، بالنسبة الى عضو هذا التنظيم، بما في ذلك عضو الحركة الاسلامية، انما يستند على المبدأ الاخلاقي عن الالتزام بالعهود، ففي النهاية فإن اية نظم او مواثيق حزبية انما تشكل عهداً بين اعضاء التنظيم فيما بينهم، وعهداً بينهم وبين قيادتهم، وبينهم وبين الرأي العام.

فهل ترى تُربّى الحركة الاسلامية عضويتها على احترام العهود؟!

ألم تكن الديمقراطية، ونظامها الدستوري القائم في عام 1989، عهداً بين الحركة الاسلامية وبين القوى السياسية الاخرى؟ وألم يقسم اعضاء الجبهة الاسلامية في البرلمان حينها على حماية الدستور؟ فمن سوغ لهم (أخلاقية) القسم على الحماية وفي ذات الوقت التآمر للانقلاب على النظام الدستوري الديمقراطي؟!وهو قسم شبيه بالقسم الذي سبق وأداه الاسلاميون لدستور نظام نميري ولمواثيق الاتحاد الاشتراكي، ولا تختلف نتيجة الالتزام به عن مآل عهد الالتزام بالدستور الديمقراطي! ويمكن تعداد الكثير من وقائع نقض العهود الشبيهة، كنقض عهد الانتخابات بالتزوير، ونقض العهد السياسي والاداري بنمط القيادة الباطني (حيث توضع قيادة رسمية مسؤولة امام الشعب ولكنها فعلياً ليست القيادة الحقيقية التي تتخذ القرارات، مما يؤدي الى ان يتحمل اشخاص مسؤولية قرارات لا يتخذونها، هذا من جهة، ومن جهة اخرى، فان متخذي القرارات لا يتحملون أية مسؤولية سياسية عن قراراتهم، وخلاف طابع الخداع والتضليل الذي تنطوي عليه مثل هذه العملية، فانها تتناقض بصورة صارخة مع مبدأي الشفافية وسيادة حكم القانون!)، وكذلك نقض العهود في تجيير الدولة لصالح الحزب، وما يتطلبه ذلك بالضرورة من تلاعب بالنظم الادارية والمحاسبية، وبالتالي من تطبيع لممارسات الكذب والتزوير! ويندرج التخطيط لاغتيال الرئيس مبارك، في جانب منه، في سياق نقض العهود، حيث اضافة الى القضية الاخلاقية المتعلقة بجواز الاغتيالات السياسية، والتي سأناقشها لاحقاً، فانه كذلك، يبرز كنقض للعهود، تحديداً نقض لعهود ميثاق الأمم المتحدة، والذي يحرم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الاخرى، خصوصاً السعي الى تغيير انظمتها السياسية بالقوة.

وبالطبع، فان الانقاذ لم تنسحب من الأمم المتحدة، وبالتالي لم تسحب التزامها بالعهود الدولية، وكان اصدق لها ان تتبنى دعوى حزب التحرير الاسلامي فتقاطع المنظمات الدولية!ولكن الانقاذ لم تفعل، ومع ذلك، سعت الى ما سعت إليه، وقد يدفع بعض أهلها من ذوي النزعات الامبراطورية بأن (الآخرين)، ورغم توقيعهم على ميثاق الامم المتحدة، فانهم يتدخلون في شؤون الدول الاخرى، ولكن، ما يفعله الآخرون، من جرائر، لا يصلح مبرراً للاقتداء له!

أو قد يدفع الانقاذيون بأنهم ملزمون ديناً بأن يناصروا اخوانهم في الدين والقضية، حتى ولو أدى ذلك الى انتهاك مبدأ السيادة الوطنية. واقول عن ذلك، بأنه اذا كان اخوانهم من المستضعفين حقاً، فذلك يثير اشكالية سياسية واخلاقية، ولكن حلها ليس في التآمر، ربما بالسعي الى تحريك آليات الأمم المتحدة نفسها، أو بالسعي الى التوفيق بين الالتزام بالعهود الدولية وبين نصرة المستضعفين بوسائل قانونية، كمثل ارساء نموذج ملهم لهم ، وبالتضامن المعنوي والاخلاقي، وربما بدعمهم سياسياً، ولكن، ليس من مبرر لدعمهم عسكرياً وأمنياً ، بما في ذلك التخطيط لاغتيال رؤساء الدول!!

وعلى كل، فاذا اختار الاسلاميون بأن نصرة اخوانهم أهم من الالتزام بالعهود الدولية، فالاخلاقي حقاً، الانسحاب من الأمم المتحدة وبالتالي التحلل من أية التزامات مترتبة عن العضوية بها!ولكن الانقاذيون لم ينسحبوا، وفي ذات الوقت انخرطوا في خيانة العهود المترتبة عن عضويتهم، وفي ذلك فإن الترابي شخصياً يتحمل المسؤولية الأكبر، فهو المنظر والمحلل لمثل هذه الممارسات، واذا استطاع التملص من مسؤوليته المباشرة في محاولة اغتيال الرئيس مبارك، فكيف يستطيع التملص من انشاء المؤتمر الشعبي العربي الاسلامي، ومن (الغزوات) الشبيهة بمحاولة الاغتيال كمثل (غزوات) تغيير الانظمة في اثيوبيا وارتريا وتشاد والكونغو؟! وهكذا فان نقض العهود ممارسة معتمدة ومستمرة للحركة الاسلامية، والأهم ان لها جذورها الفكرية والفقهية لدى الترابي وتلامذته، ولدى كل الجماعات الاسلامية الاصولية.

يقول المثل السوداني الشائع: (الما بخاف الله خافو)، وعلى بساطته، فانه يستخلص استنتاجاً فلسفياً عميقاً، سبق واشار إليه الاديب الروسي دوستوفسكي حين كتب: (اذا كان الله غير موجود فكل شيء مباح). وكان يعني بأن الملحد المتسق مع إلحاده لا يمكن ان يكون أخلاقياً لأن كل شيء يكون مباحاً لديه. وقد اكدت ذلك تجربة اوروبا حين اعلنت بزهو (موت الله)، فلم تضر الله تعالى بشيء، ولكنها عملياً اعلنت بذلك موت علاقتها بأي مثال اخلاقي وروحي، وبالنتيجة فقد اعلنت موت انسانيتها!! والى ذات النتيجة توصل الفيلسوف الألماني (كانط) - نتيجة انه لا يمكن تأسيس الاخلاق بصورة متسقة إلا بافتراض وجود الله .وهكذا فان الملحد اذا كان متسقاً مع إلحاده فإنه سيتحول الى شخص بلا أخلاق!

وللمفارقة فإن الأصولي الاسلامي ينتهي الى ذات نتيجة الملحد، فهو لا (يخاف من الله)، ليس بسبب اعتقاده بعدم وجوده، ولكنه عفا نفسه من هذه المخافة بوثوقيته وانغلاقه، فهو لايتوجه الى الله خائفاً ولا راجياً وانما واثقاً ومختالاً فخوراً، انه على قناعة بأنه ممثل الله في الارض، وانه يريد انزال مملكة السماء على الارض، ومادامت غايته سامية ومقدسة واخلاقية، فان أية وسائل يعتمدها تكون اخلاقية كذلك، وهكذا، فإنه يعفي نفسه عملياً من (مخافة الله) ومن التساؤل عن اخلاقية افعاله، لأن افعاله انما لصالح الغاية المقدسة (الدعوة)، مما يجعله يتصور بأن (الكذب) لصالح (الدعوة) فضيلة، ونقض العهود لصالح (الدعوة) حلال، والاغتيالات وترويع الامنين والأبرياء لصالح الدعوة جهاد! ولكن، ولأن الدعوة الحقيقية انما هي دعوة لأجل اشاعة الصدق والوفاء بالعهود ولأجل السلم والرحمة، فإن (دعوة) الاصولي تتحول في نتائجها العملية الى (دعوة) ضد الدعوة!!

ليسوا اخواناً وليسوا مسلمين 3

مسارب الضي
ليسوا اخواناً وليسوا مسلمين:
الحاج وراق
فقدان بوصلة سياسية أم غياب نور الحكمة 3
على عكس ما يدعي (الوطنيون)، فان الترابي حين ألقى بقنبلته عن تورط مسؤولين حكوميين في محاولة اغتيال الرئيس مبارك، لم يكن يفعل ذلك بسبب فقدان البوصلة السياسية، أو الخرف (!)، فأهدافه كانت ولا تزال واضحة، وسبق وأعلنها صراحة، وهي
(التغيير)!
فحين دعا المؤتمر الوطني الى اجتماع القيادات السياسية الشمالية تحت شعار الاجماع الوطني، كان الترابي الذي علم تلامذته (السحر) على يقين من الهدف الحقيقي لمثل هذه الدعوات عن وحدة الصف، ألا وهو الاصطفاف خلف المؤتمر الوطني بما يحافظ على احتكاره للسلطة بدعوى مواجهة الاستهداف الخارجي!
ولذا فقد رد الترابي على ذلك بالدعوة الى حكومة قومية لا يشترك فيها الوزراء الحاليون أو السابقون! ولم يكتفِ بذلك، بل أيّد استبدال القوات الافريقية بقوات دولية، كما أيّد تسليم المسؤولين عن جرائم الحرب في دارفور إلى المحكمة الجنائية الدولية!وهكذا فان قنبلته تأتي في سياق محدد، سياق الدعوة إلى (التغيير)، وتدفع القنبلة إياها في هذا الاتجاه، بفضح وتعرية المجموعة الحاكمة في الداخل، مع تقديم حيثيات قانونية اضافية لمساعي محاكمتها في الخارج!إذن فأهداف الترابي السياسية واضحة، وكعادته، فإنه يخدمها بتصميم ومثابرة، ودون ان يتساءل حول مدى مشروعية وسائله الأخلاقية!!
* وقطعاً ان الدعوة الى التغيير مشروعة وملحة، وكما لا يخفى، فإن الانقاذ التي ظل يتداول مفاتيحها الأساسية ما لا يزيد عن الخمسين شخصاً طوال عمرها في السلطة، فإن تغيير سياساتها لابد وان يترافق مع تغيير في الاشخاص، خصوصاً أولئك المتورطين في انتهاكات القانون الدولي الانساني والشرعة الدولية، واللذين تقع ضمنهما جرائم الحرب في دارفور ومحاولة اغتيال الرئيس مبارك!ولكن في المقابل، فإن التغيير الحقيقي والأكثر جذرية يتعدى تغيير الاشخاص الى تغيير طرائق التفكير والمناهج والسياسات التي قادت إلى الأزمة.وبدون مثل هذا التغيير فإن الحركات الاسلامية الاصولية ستظل تدور في الحلقات المفرغة التي تنتهي من حيث تبدأ، فكما اختتم حسن البنا حياته السياسية بتبرؤه من جهازه السري واطلاق قولته الشهيرة (ليسوا اخواناً وليسوا مسلمين)، واختتم الترابي مرحلة كاملة من تاريخه السياسي بذات صيحة التبرؤ، فذلك سيستمر إذا تم اختزال الأزمة في حدود انها أزمة أشخاص وحسب، وليس بعيداً ان يأتي بعد عشرين عاماً أخرى أحد قيادات الحركات الأصولية الأخرى كعبد الحي يوسف أو أحمد مالك أو غيرهما فيصيح بذات صيحة التبرؤ
(انهم ليسوا اخواناً وليسوا مسلمين)!!
ولذا فإن التغيير الحقيقي لابد وان يتعدى مساءلة الاشخاص - على أهمية مثل هذه المساءلة - الى مساءلة البيئة النفسية والفكرية والتنظيمية التي تنتج هؤلاء الأشخاص، من جهة، ومن الجهة الأخرى تنتج المؤامرات والويلات ومخاضات الدم!وان مساءلة جذرية كهذه، لهي وحدها القمينة باستخلاص الدروس الصحيحة من التجربة، والاستفادة منها، ليس فقط في تصفية الحسابات الشخصية الصغيرة، أو فش الغبائن، وإنما لمعافاة الحياة السياسية في بلادنا.* ومقارنة بالمجموعة الحاكمة، فان الترابي اكثر تأهيلاً للدخول في مناقشة منتجة لمعافاة الحياة السياسية في البلاد، وذلك لأن مثل هذه المناقشة تتطلب عقلاً منتجاً، بينما المجموعة الحاكمة (خائفة) على احتكارها وعلى امتيازاتها، ولذا توظف عقلاً (خائفاً)، وهو عقل ينجح في التدابير وفي التبرير والالتواء والتضليل، ولكنه لا ينجح في انتاج معرفة صحيحة أو معرفة جديدة! ان العقل (الخائف) يشتغل على مقاس الكراسي القائمة، ولهذا فإنه لا يستطيع ان يحجز مقعداً في المستقبل!
وأما الترابي، فانه لم يعد يخاف على سلطة أو على امتيازات سلطوية، ولكنه ومع ذلك، لا يزال خائفاً، أقل من المجموعة الحاكمة، ولكنه لا يزال خائفاً على صورته وعلى مشروعيته وعلى حدود مسؤوليته الشخصية، فإذا استمر يهجس بمخاوفه هذه، فانه سيستمر يفجر الكثير من (القنابل) ولكن لن ينجح في زراعة ولو قليل من الفسائل
والمتأمل في خطاب الترابي مؤخراً، يلحظ انشغالاً بأسئلة المستقبل، أي بتأهيل حركته فكرياً بما يجعلها تستجيب لتحديات المعاصرة، كمثل تحديات حقوق الانسان وقضايا الجندر (النوع) وقضايا التعددية الدينية، وهذا هو السبب الاعمق في فتاواه الأخيرة عن الحور العين وامامة المرأة وشرب الخمر. وكذلك قنبلته الاخيرة عن محاولة الاغتيال، فاضافة الى أهدافها السياسية المباشرة، فإنها من جانب آخر تستجيب في حدود معينة لسؤال الارهاب، وهو سؤال حقيقي وأساسي من أسئلة العالم المعاصر، غض النظر عن ابتذاله لدى اليمين الامريكي الجديد أو استخدامه كأحد آليات الهيمنة في المنطقة.ولكن، مثل هذه التحديات وغيرها، لا يمكن مواجهتها، كما سبق وكررت بالاستهبال أو الاحتيال، فالنزاهة اضافة الى كونها مطلوبة في ذاتها أخلاقياً، فإنها كذلك أحد شروط انتاج أية معرفة ذات شأن.
وتستوجب النزاهة تطبيق المعايير ذاتها على الآخرين وعلى النفس، ولكن العقل المحافظ والخائف، يزْْوَر عن الوصول بالاستنتاجات الى نهاياتها المنطقية، لأنه يخاف على شيء ما أو يود المحافظة على شيء ما! وهذا ما يفعله الترابي وهو يحاول المحافظة على صورته ومشروعيته وعلى مشروعه الاصولي خصماً على الحقيقة!ويفيد د. الترابي التأمل في النكتة عن أحد المحامين الذي نصح موكله - وكان متورطاً في احدى الجرائم - بأن يكذب امام القاضي بأن يدعى الجنون! وذلك بأن يجيب على أي سؤال من القاضي بكلمة (لِق لِق لِق)! وهي لفظة دارجة تفيد الامتناع وفي ذات الوقت السخرية من الطلب نفسه! وحدث ذلك فعلاً في المحكمة، فكلما سأل القاضي المتهم سؤالاً أجابه حسب نصيحة المتهم بكلمة واحدة لا غير (لق لق لق)! فاقتنع القاضي بأن المتهم مريض نفسياً وحكم ببراءته!
ولكن حدثت كارثة المحامي حين طالب المتهم بأتعابه، فقد أجابه بذات الاجابة السابقة (لق لق لق)!!نكتة تجيب على الكثير من ادعاءات الترابي على تلامذته، فالتآمر ونقض العهود، والكذب، والعنف، وانتهاكات حقوق الانسان، وغيرها من الممارسات التي يأخذها الترابي عليهم، انما سبق واشار عليهم بها في مواجهة الخصوم، واعتمدها كأسلحة مشروعة على أساس فقه ضرورات ومصالح الدعوة! ولكن وبطبيعة مثل هذه الاسلحة فليس لها حداً تقف عنده - فكما كان الكذب في مصلحة (الدعوة) فضيلة، ونقض عهد الديمقراطية حلالاً، فمن الطبيعي ان يصل التلامذة الى اليوم الذي يرون فيه انه من مصلحة (الدعوة) كذلك (الانقلاب) و(الغدر) و(العنف) تجاه شيخهم!
وهكذا دوماً
(من يفعل مثقال ذرة شراً يره)
و
(كما تدين تدان)
و
(التسوي كريت في القرض تلقا في جلدها)
فالاغلال التي نحضرها لتقييد أيادي الآخرين عادة ما تنقلب إلى تقييد أيادينا نفسها!

ليسوا اخوانا وليسوا مسلمين 4

مسارب الضي
ليسوا اخوانا وليسوا مسلمين :
الحاج وراق
فقدان بوصلة سياسية أم غياب نور الحكمة ؟! 4
علق المفكر السياسي ( بلامنتز) علي ادعاء الأحزاب الشيوعية أنها تمثل الطبقة العاملة بالقول ان ذلك يشبه حال من رأى إمرأة جميلة فأعجبته، فأدعى انها خطيبته دون ان يأخذ رأيها !ولأن التفكير العقائدي واحد ، وان اختلفت شعاراته ، فإن الحركات الإسلامية الأصولية تدعى ادعاءً شبيهاً ، وان كان أخطر بما لا يقاس ، حيث تدعى بأن احزابها احزاب الله ، اى ممثلة الله في الارض ! وغض النظر عن المفارقة المنطقية في هذا الادعاء ، ذلك أن حزب الله في المصطلح الديني القرآني يعني وصفا للمؤمنين ، ويختلف في دلالته عن الحزب في المصطلح السياسي ، والذي يصف جماعة تسعي للوصول الى السلطة، وبالطبع، فما من عاقل يتصور بأن الله تعالى يحتاج الى حزب سياسي لامضاء سلطانه علي كونه ! غض النظر عن ذلك ، فإن ادعاء جهة ما، بأنها مع الله ، فإن هذا لا يعنى بالضرورة أن الله معها !
* ولكن الحركات الأصولية تعتقد بأن ادعاءها كافٍ في حد ذاته لوصف حقيقتها ، فما دامت تدعى انها حزب الله، فإنها حزب الله ، هكذا، دون معايير مستقلة عن الادعاء للتحقق منه ، كمثل معيار تطابق ممارستها السياسية مع قيم الاسلام ، او مثل اخذ رأي المسلمين أنفسهم
وبالطبع، لا يمكن الحديث عن تمثيل (الاسلام) بمعزل عما تراه اغلبية المسلمين في المجتمع المعني عن ماهية الإسلام وما يعنيه . وهذه الغالبية، لا يمكن التحقق من صدق ادعاء تمثيلها الا في مناخ من حرية التداول والمناقشة، وعبر انتخابات حرة ونزيهة، تفوض فيها الاغلبية من يتحدث باسمها ! فاذا لم يكن الامر كذلك ، فما الفيصل في الفصل بين ادعاءات الحركات الإسلامية المتعددة والمختلفة التي تكفر بعضها بعضا ؟!
ان لم يكن الفيصل جمهورالمسلمين انفسهم ، فالبديل الآخر ، أن تنصب احدي الجماعات من نفسها وصية على الآخرين(بمن فيهم ادعياء كونهم حزب الله )
بالقمع والترويع
وهكذا، فإن اية دعوة لرفض الديمقراطية بدعوى تمثيل حاكمية الله ، تنتهي بالضرورة، وفي جميع الحالات، الي القمع والطغيان !!
* والأخطر أن إدعاد الحركات الاصولية تمثيل الله تعالي في الارض ، يقود الي نتيجتين كارثيتين ، تتعلقان بموضوعنا ، اى بموضوع الاخلاق في السياسة ، فمن ناحية، يقود الى الاستهانة بالوسائل ، فما دامت هذه الحركات ترى ان غايتها سامية ومقدسة ، فإن اية وسائل، وغض النظر عن اخلاقيتها ، يمكن اعتمادها لاجل هذه الغاية !ولأن الغايات غير متناهية ، بمعني ان اية غاية كلية ـ كمملكة الله في الارض ، أو الفضيلة ، او العدالة ، او الحرية ـ ليس لها حد نهائى ، فكلما تحققت في مستوى معين، يمكن تطويرها الي أعلي ، وبالنتيجة، فإن الغاية النهائىة لن تتحقق ابدا ، وما يتحقق فعلا انما هو جماع الحركة تجاه تلك الغاية ، أى أن ما يتحقق فعلا انما هي الوسائل ، وبالتالي، فإن الوسائل لا يمكن فصلها عن الغايات ، والذي ينفق عمره يكذب ويتآمر وينتهك الحقوق والحرمات في انتظار غاية ما ، فسيجد أن حصيلة حياته العملية انما هي وسائله من كذب وتآمر وخوض في الدماء !!
* والنتيجة الكارثية الثانية للادعاء الاصولي انها تسحب تمثيلها للمقدس على نفسها كحركة ، فتصير هي نفسها مقدسة ، وكذلك هيئاتها وقياداتها ، والاهم ان القداسة تنسحب على وسائلها وممارستها السياسية ، غض النظر عن اخلاقيتها ! وفي ذلك خطأ منطقي بين، لان اضافة النسبي الي المطلق لا تحول النسبي الي مطلق ، وبالتالي، فإن اضافة الدنيوي الي الديني لا تحول ماهو بشري الى مقدس ! ولتخطى هذه المفارقة، فإن قيادات الحركات الاصولية تعتمد حيلتين آيديولوجيتين ، الاولى حيلة (التأصيل) ، أى الاستشهاد بآية قرآنية او حديث نبوي او واقعة في السيرة النبوية ، واقتطاع هذا الاستشهاد ، دون هدى وبلا نور، من سياقه الكلي - سياقه الديني والاخلاقي والتاريخي ، ومن ثم توظيفه آيديولوجيا على الوقائع المغايرة والقائمة حاليا !وأما الحيلة الثانية، فإعادة التسمية ، حيث تسمى ممارسات الحركات الاصولية باسماء مستوحاة من المناخ الديني، بما يجعل هذه الممارسات تندرج في سياق مختلف عن سياقها الفعلي !
وبواسطة هاتين الحيلتين، فإن الكذب على الجماهير يتحول الي (تدابير) ! ويتحول نقض العهود الى خدعة والحرب خدعة ! ويصور استهداف المدنيين والابرياء بوصفه جهادا !
ويتحول اغتيال القيادات والرموز الي مجاهدة لائمة الكفر !
وتتحول المحسوبية والمظالم الى
(تمكين) !
وتسمي بيوت الاشباح حيث يمارس تعذيب المعارضين بيوت
(التوبة) !
ويتحول التزوير الى عبادة !!
والتحسس والتجسس الي
(أمن مجتمع) !!.
تلك نهاية إدعاء (تمثيل) الحقيقة المطلقة ، وهو يختلف جذرياً عن السعى الى (تمثُّل) القيم الإسلامية ، وللمفارقة، وعلى عكس ما تدعى الحركات الأصولية، فإن قيم الاسلام الاساسية تتناقض مع منطلقاتهم الوثوقية. فبالنسبة للمسلم ، وليس الاسلامي، فإن الايمان نفسه، دع عنك مجرد إدعائه ، ليس كافياً لوحده في الخروج من دائرة الخسران ، وذلك لأن الايمان لابد أن تتبعه وتصدقه الأعمال الصالحة :(والعصر ان الانسان لفي خسر ، الا إلذين آمنوا وعملوا الصالحات) !ثم إن المسلم ، وفي ممارسته لعباداته القطعية المخصوصة، كالصلاة والصيام وغيرها، لا يستطيع ان يجزم واثقا بقبولها عند الله تعالى ، ولذا فإن المؤمن الحق لا يتبجح مختالا فخورا، وانما يتوجه الى الله تعالي راجيا وخائفا ، هذا في العبادات القطعية ، دع عنك في (الظنيات) كالسياسة والاقتصاد والاجتماع !!
* وكذلك، فإن القيم الإسلامية ـ وعلى النقيض من تصورات الحركات الأصولية بأن ادعاءها عن نفسها كاف في حد ذاته لوصف حقيقتها ـ تربط ما بين الايمان والعمل (الدين المعاملة) ، وتنص على ان اعمال البشر يراها الله تعالي ورسوله، ويراها كذلك (المؤمنون) ! وللتحقق من صلاح هذه الاعمال، فإنها تضع معياراً اساسياً واضحا : (خيركم خيركم للناس) ـ لاحظ الناس بالمطلق ـ غض النظر عن دينهم أو عرقهم او نوعهم ! وبالطبع، فإن الناس هؤلاء يحددون بأنفسهم خيرهم وشرهم ، ولذا قيل (ألسنة الخلق أقلام الحق) ! وهكذا، فليس لحركة ما، ان تدعي بأنها تمثل الله تعالي دون ان تستشير خلق الله في صواب ادعائها، ودون ان تصدق افعالها الملموسة ادعاءها ! وليس لها أن تتورط في الاعمال المشينة بادعاء ضرورات الايمان ، وذلك لأن مصداق الايمان انما في الاعمال الصالحة !
ثم انه ليس من حق جهة بدعوي تمثيلها الله في الارض، ان تتحول الى سوط عذاب لخلق الله تعالي، فتترخص في الخوض في دمائهم وتنتهك حقوقهم وحرماتهم، وتكذب وتتآمر عليهم ، وتزور ارادتهم ، مثل هذه الدعوى مردودة، لان الخلق عيال الله، فمن احب الله احب عياله ، ثم ان
(خيركم خيركم للناس) !

ليسوا اخواناً وليسوا مسلمين 5

مسارب الضي
ليسوا اخواناً وليسوا مسلمين:5-5
الحاج وراق
فقدان بوصلة سياسية أم غياب نور الحكمة؟
- الإيمان قيد الفتك -- حديث شريف..
ان الاغتيال باسم السماء كان وسيظل دوماً لعبة من ألعاب السياسة. ! فولتير
ذكرت في الحلقات السابقة بأن ادعاء حركة سياسية ما بأنها حزب الله، لا ينهض في حد ذاته دليلاً على انها حقاً مع الله، أو أن الله تعالى معها، ومن ثم، تطرح ضرورة مساءلة أخلاقية الممارسة السياسية لأية حركة، بما في ذلك أدعياء تمثيل الله في الارض ـ مساءلة أخلاقية ممارستها، من زاويتين، من حيث تمثلها للقيم الاسلامية، ومن حيث نتائج ممارستها ومترتباتها وثمارها على الأرض، أي على المجتمع والناس الواقعيين.
ولا يمكن معافاة الحياة السياسية في بلادنا، وفي المنطقة عموماً، دون مناقشة وحسم قضية الى أي حد تجيز القيم الاسلامية الاغتيالات السياسية.وبحسب شهادة د.الترابي، فإن عدداً من المسؤولين الحكوميين الحاليين قد تورطوا في محاولة اغتيال الرئيس مبارك، فإذا تجاوزنا قضية نقض العهد، وأعني ميثاق الامم المتحدة الذي يجرم مثل هذا الافعال بين الدول، فهل يجوز لهم ذلك، من حيث المبدأ؟!
وهل يجوز للاسلاميين المصريين، الذين لا يقيدهم عهد الامم المتحدة، والذين شكلوا اداة التنفيذ الاساسية في تلك المحاولة، هل تجوز لهم ممارسة الاغتيالات ؟!
ورغم أني لم أجد تأسيساً معلناً للاسلاميين السودانيين يبرر الاغتيالات السياسية، الا ان ممارستهم العملية، كالتورط في محاولة اغتيال الرئيس مبارك، تشير بأنه ربما تكون لديهم مثل هذه (الفتوى)!
وقد كفانا الاسلاميون المصريون عناء التكهنات، فقد نشر أحد قيادات الجهاز السري (العسكري الامني) للاخوان المسلمين (محمود الصباغ)، مذكراته في عام 1989م وقدم لها المرشد العام للاخوان حينها، وقد ورد فيها، كأسس فكرية وفقهية للتنظيم السري:
يجوز اغتيال المشرك الذي بلغته الدعوة، وأصر على العداء والتحريض على حرب المسلمين.
يجوز اغتيال من أعان على قتال المسلمين سواء بيده او بماله او بلسانه.
يجوز التجسس على اهل الحرب.
يجوز ايهام القول (الخداع والكذب!) للمصلحة
يجوز الحكم بالدليل والعلامة للاستدلال.)
والخطورة في مثل هذه المنطلقات الفكرية الفقهية، انها لا تجيز اغتيال المخالف في العقيدة الدينية وحسب، وانما كذلك، تفتح بابا واسعا للتأويل والترخص في الفتك بالآخرين، حيث تنص على جواز (الحكم بالدليل والعلامة للاستدلال)! وليس ذلك وحده، وانما الاخطر، ان هذه الجماعات، ولأنها تعتقد بأنها الممثل الحصري للاسلام، فإن اي مسلم آخر، خارج صفوفها، بما في ذلك عضو الجماعات الاخرى المنافسة، ربما تنطبق عليه ذات احكام المشرك ـ أي احكام الاغتيال والتجسس والخداع! وغني عن القول إن مثل هذا التأويل الفاسد للاسلام ينتهي بالمسلمين الى طاحونة دم تدور الى ما لا نهاية! وذلك ما تشير اليه سواء تجربة الاسلاميين المصريين او التجربة السودانية!ولكن، وبغض النظر عن الثمار المرة للممارسة، فإلى أي حد تسعف القيم الاسلامية مثل هذا الترخص للخوض في دماء الناس؟!
للاجابة على هذا السؤال، سأحاول ان استكشف، مستنداً على النصوص الاسلامية، تصوراً عاماً عن الوسائل الصحيحة للتغيير، والى أي حد تتطابق هذه الوسائل مع ممارسة الاغتيالات السياسية، ومن ثم، مناقشة موقف هذه النصوص تحديداً من الاغتيالات.
تشير أدبيات التنمية المعاصرة الى أن أهم مدخل للتغيير، بل العامل الحاسم فيه، تغيير القيم السائدة في المجتمع المعني، وأُصطلِحَ على تسمية هذا (العامل) برأس المال الرمزي ـ أي القيم السائدة في المجتمع زائداً علاقتها بالنظام السياسي والمجتمع المدني، وقد اتضح بناءً على دراسة العديد من التجارب، بأنه دون تغيير الثقافة السائدة، فإن أية تغييرات أخرى، سواء سياسية، أو اقتصادية، أو قانونية، ستكون غير كافية، أو شائهة، أو قابلة للنكوص والارتداد!
وتؤكد تجارب النهوض المعاصرة قانونية التغيير هذه، حيث نهضت بلدان كاليابان، وكوريا الجنوبية وسنغافورة، وتايوان وماليزيا، والهند، وغيرها، بتركيزها على تنمية الموارد البشرية، أي تركيزها واهتمامها بتوطين العلوم والتقانة، وصرفها على التعليم والتدريب، وعلى نشر وتنمية القيم المحفزة والملائمة للنهضة كقيم العمل والاتقان والانضباط والزمن وغيرها!وقد سبق وأرسى القرآن الكريم هذه القانونية في قوله:
(إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم).
وبالطبع، فإن تغييراً يستند على تغيير ما بأنفس الناس أولاً، إضافة إلى ايلائه اهمية العامل الثقافي والقيمي، فإنه كذلك ـ وهذا هو المهم بالنسبة الى موضوعنا ـ يلح على الطبيعة المجتمعية للتغيير ـ بمعنى أن المجتمع نفسه هو الذي يتغير فيغير أوضاعه في علاقة تفاعلية، وبالتالي فإن نموذجاً كهذا، يتناقض وبصورة واضحة مع نماذج التغيير بالنيابة عن المجتمع، أو بالوصاية عليه أو بتغييبه، أي يتناقض مع نماذج التغيير عبر الانقلابات العسكرية والاغتيالات السياسية!!
وإذا كان نموذج التغيير المجتمعي، يتطلب جهداً شاقاً وصبوراً، فإن النماذج الأخرى تقوم على فكرة (اختصار الطريق)، وعلى روحية استعجال النتائج، وعلى تقليل الجهد والزمن اللازمين لعملية التغيير.. وكما ينهار كل بناء يستعجل في تشييد أساسه، فإن نماذج اختصار الطريق (الانقلابات والاغتيالات والأعمال الارهابية)، عادة ما تنتهي الى الانهيارات والى نقيض أهدافها المعلنة! فالانقلابات التي تقفز الى السلطة بدعوى محاربة الطائفية تنتهي اما متحالفة معها او والطائفية أقوى مما كانت! والتي تقفز بدعوى استقلال القرار الوطني تنتهي ببلدانها اما الى الاحتلال او الى الوصاية الاجنبية! والتي تقفز على اكتاف اليساريين او القوميين او الاسلاميين تنتهي وقد فتكت بالاكتاف التي صعدت عليها!!وكذلك الاغتيالات السياسية، وأفضل نماذجها اغتيال المرحوم السادات، فقد أدى، وعلى عكس اهداف الجماعة الاسلامية التي دبرته، الى اضعافها، سواء لصالح النظام الحاكم، او لصالح منافسيها من الاخوان المسلمين!
وكذلك محاولة اغتيال الرئيس مبارك، فقد افضت في الحصيلة النهائية، وعلى عكس نوايا مدبريها، الى تعاظم دور الرئيس مبارك في الشؤون السودانية نفسها! مما يقود الى الاستنتاج بأن نماذج التغيير القائمة على اختصار الطريق تقود حتماً الى الخسران!وهذا ما سبق وقررته المباديء الاسلامية في سورة العصر: (والعصر. إن الإنسان لفي خسر. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر.)إذن فالحق نفسه يحتاج الى (الصبر)، دع عنك المتشابه او الباطل!وسواء في الحق او المتشابه، فإن استعجال النتائج، كما يقرر القرآن مشفوعاً بالقسم الإلهي المؤكد، يقود حتماً الى الخسران!
وأما موقف القيم الاسلامية من الاغتيالات، بصورة أكثر تحديداً، فقد قررته الآية الكريمة: (إن اللهَ يدافع عن الذين آمنوا، إن الله لا يحب كل خوّان كفور) (الحج 38). ويورد الفخر الرازي في تفسيرها ان مسلمي مكة استاذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ان يفتكوا بالمشركين الذين آذوهم وعذبوهم فنهاهم قائلاً: (الإيمان قيد الفتك). ونزلت الآية الكريمة في ذات السياق ولتأكيد قول المصطفى صلى الله عليه وسلم.
والفتك كما يورد الزمخشري (هو القتل على حين غرة).وقد استشهد بذات الحديث النبوي مسلم بن عقيل حين رفض الدعوة لاغتيال عبيد الله بن زياد، وقال بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قيد الإيمان الفتك لا يفتك مؤمن). اخرجه أبو داؤود. ( د. رفعت السعيد ـ 2004).
* والاغتيالات السياسية مثلها مثل كرة الثلج، تتضخم كلما تدحرجت، فتبدأ باغتيال المخالفين، ولكنها تنتهي بالاغتيالات داخل الجماعة، وباغتيال من لا يشك في ايمانهم، كمثال الخوارج الذين خرجوا على الامام علي كرم الله وجهه لقبوله التحكيم في شأن معاوية (الكافر!)، بدعوى الحاكمية لله، ولكنهم انتهوا عملياً الى اغتيال الامام علي المبشر بالجنة والذي لا يشك مسلم في ايمانه، والى فتح الطريق لسيادة الأمويين!!
وكذلك قصة الجهاز السري في مصر والسودان!
أما في مصر، فقد انفلت الجهاز بقيادة (السندي) من أيدي المرشد العام (حسن البنا)، فنفذ عدة اغتيالات على من يصفهم بالمشركين، كالقاضي الخازندار ورئيس الوزراء النقراشي، مما قاد الى تبرؤ المرشد العام، والى مقتله لاحقاً برصاص البوليس السري الملكي!ولكن الجهاز لم يكتفِ بدماء مخالفيه ، وانما انتهى الى الخوض في دماء عضويته نفسها! وقد شهد على ذلك مؤسس التنظيم (محمود عبد الحليم) في مذكراته، التي يحكي فيها كيف ان قائد الجهاز السري (السندي) قد دبر اغتيال نائبه المهندس سيد فايز (..لقد تخلص منه بأسلوب فقد فيه دينه وانسانيته وعقله ورجولته...) (..مؤامرة السندي استحلت حرمة البيوت فاقتحمت على المرشد العام بيته، واستحلت دم أخ مخالف لهم في الرأي
وهكذا، فقد انتهى الجهاز السري الى استحلال دماء (الاخوان) خارجاً عن قيم الدين والإنسانية والعقل والرجولة!! والاخطر ان هذا الجهاز قد بلغت سطوته لاحقاً انه صار يحدد المرشد العام، غض النظر، عن رأي القواعد والهيئات!!
وكذلك قصة الجهاز (السري) في السودان، انفلت عن أيدي مرشده العام، وأطاح به لاحقاً، ثم دبر محاولة اغتيال الرئيس مبارك، وبحسب شهادة الترابي، حين فشلت المحاولة، لم تتم محاسبة المدبرين الفاشلين وانما تصفية (الاخوان) من المنفذين، لمحو آثار الجريمة، ولكي ينام الفاشلون ملء الأعين وقريريها!!ثم ماذا كانت النتيجة النهائية؟ لقد تحول الرئيس مبارك، بتداعيات محاولة الاغتيال نفسها، الى ما يشبه (الراعي الروحي) لما تبقى من نظام الانقاذ!
فياله من خسران مبين

المتفيقهون فقهاء بلا فقه! 4

مسارب الضي
المتفيقهون فقهاء بلا فقه! 4
الحاج وراق

سألت امرأة، عبر الموقع الالكتروني، أحد أبرز التكفيريين في البلاد، عن جواز ايجار منزلها للأمم المتحدة، فأفتاها بحرمة ذلك مدعياً بأنه يدخل في موالاة الكافرين! ويجد مثل هذا الظلامي التكفيري الجرأة ليستل فتاويه المدججة في وجه امرأة مسكينة، فيحرمها تنطعاً من كسب ضروري ومشروع، ولكنه في المقابل، لا يجد الآن الجرأة الكافية ليسأل نفسه: فما حكم حكومة السودان التي ادخلت الأمم المتحدة ابتداء؟! لو أنه متسق ونزيه في احكامه التكفيرية لأفتى بكفرية حكومة السودان وبالتالي لأفتى باستباحة دماء قادتها! ولكنه الآن في مرحلة (التمسكن) وهي مرحلة تستدعى مداراة الحاكمين والاستقواء بظل سلطتهم وتفيؤ ظلال موارد الجامعات الحكومية، هذا بالطبع، الى حين (التمكن) ومن بعد ذلك التفرعن ولكنه على كل، إذ يبالي بمصالح (تمكنه) لا يبالي بعدم اتساقه مع منطقه ومع نفسه

هكذا دوماً فإذا كان مطلوباً من الفقيه الحق استيعاب الفقه السابق ومن ثم تجديده وتجاوزه للاستجابة للتحديات المعاصرة، فإن المتفيقهين لا يقصرون عن الايفاء بمثل هذه المتطلبات وحسب، وانما يقصرون عن مجرد استيعاب الفقه السابق، والأنكى، انهم في ذلك يتناقضون والنصوص الدينية المحكمة، ومع المنطق، بل ومع أنفسهم

خذ قضية تكفير الترابي أنموذجاً، وقبل ان نناقش آراء الترابي في ذاتها ، فمن حيث المبدأ، فانهم يكفرون الترابي بدعوى خروجه على نصوص قطعية الثبوت والدلالة! ورغم ان هذا قد لا يصدق في توصيف الحالة، فلنذهب معهم الى نهاية منطقهم، ولنسلم بذلك.فالمضحك المبكي ان جعفر شيخ ادريس، الذي استقدمه الظلاميون من الخارج لتصورهم بأنه يخدم قضيتهم افضل، حيث أنه مثل الترابي يجمع بين الاطلاع التقليدي والدراسة الحديثة، ودارس للفلسفة، ولكنه جرياً وراء اهوائه، نسى أول درس في دروس الفلسفة، وهو مبدأ الاتساق المنطقي! فأفتى في ندوتهم بجامعة الخرطوم بردة الترابي ، ولكنه رأى عدم قتله حتى لا تثور ثائرة منظمات حقوق الانسان!! وليته برر رأيه بأن طواحين سفك الدماء هذه إذا دارت فإنها ستدور بلا نهاية، إذن لارتفع اخلاقياً، ولكن ثقالة الاهواء والانغلاق تشد دوماً إلى الاسفل!الأهم ان جعفر شيخ ادريس قد كفر الترابي بزعم خروجه على نصوص قطعية، ولكنه هو نفسه، يجحد نصاً دينياً: (من بدل دينه فاقتلوه)، وهو كغيره من السلفيين والتكفيريين يراه نصاً قطعياً، مع ان الفكر الاسلامي المعاصر، إما ان يضعفه أو يراه مرحلياً أو متشابهاً أو محكوماً بسياقه التاريخي، فإذ يُبطل جعفر شيخ ادريس ما يراه نصاً قطعياً فانه وبحسب المنطق التكفيري الذي يتبناه، فإنه هو نفسه يكفر، ويصير بالتالي مستحقاً للقتل!!
وبعيداً عن تهافت المنطق التكفيري، ومتجاوزين الطابع الانتهازي لفتوى جعفر شيخ ادريس بعدم قتل الترابي، فإن ممارسته الفقهية القاضية بابطال اعمال نص ما بسبب موازنات معينة أو لمستجدات طارئة يراها الفقيه أو المجتهد، مثل هذه الممارسة ممكنة ومعترف بها، حتى لدى السلفيين، وبالتالي فانها لا تشكل خروجاً على ما في الدين بالضرورة، ولا تصلح كحيثية دامغة للتكفير!وكأسوأ الاحتمالات فإن الترابي، في آرائه التي كفر بسببها، كإمامة المرأة، وزواج المسلمة بالكتابي، ومساواة شهادة المرأة والرجل، وغيرها ، وغض النظر عن اتفاقنا أو اختلافنا معه، يمارس ذات الممارسة التي اجازها جعفر شيخ ادريس لنفسه، حين أفتى بعدم قتل الترابي (المرتد!)، ولذا فإن الاتساق المنطقي ـ دع عنك العدالة ـ يقتضي إما تكفيرهما معاً (!) أو الاقرار بجواز ذات الممارسة الفقهية لكليهما!
ولندع جعفر شيخ ادريس وحسن الترابي، اللذين قد يثور تساؤل حول ايمانهما، ولنأخذ أنموذجاً آخر، سيدنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه، والذي لا يشك عاقل في ايمانه، ولكنه ومع ذلك:- كان هناك جماعة من العرب، و«كانوا سادة في قومهم، فجعل الله لهم سهماً في الصدقات، وأمر النبي (صلى الله عليه وسلم) أن يعطيهم هذه السهم تألفاً لقلوبهم، كما في قوله تعالى: «انما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليهاوالمؤلفة قلوبهم.) (60 التوبة).
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم ومن بعده أبو بكر قد أعطوهم من الفيء ومن الزكاة، فلما استخلف عمر قال لهم: (ان الله أعز الاسلام وأغنى عنكم). ثم منع هذه الطائفة كلها ما كان لها من نصيب في الزكاة وجعلها لغيرها من المسلمين.وهكذا تجاوز سيدنا عمر حكماً قطعي الدلالة والثبوت
- كذلك كانت السنة النبوية تقضي بتوزيع اربعة أخماس الارض المفتوحة على مقاتلة جيش الفتح، عملاً بقوله تعالى: (واعلموا انما غنمتم من شيء فإن لله خُمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل) (41 الأنفال)، وكان هذا قانوناً متبعاً منذ فتح خيبر وتوزيع غنائمها (سنة 7 هجرية).
غير ان سيدنا عمر بن الخطاب رأى ان علة الحكم قد تغيرت بعد الفتوحات الجديدة وانضمام البلدان الجديدة لديار الاسلام، بكل ما يتطلبه ذلك من حسن ادارة مواردها الاقتصادية لمصلحة أهلها المقيمين عليها، ولمصلحة المسلمين المستقبلية، على تعاقب أجيالهم.
لذلك رفض توزيع الفيء على المقاتلة وترك الارض لأهلها واستبدل الفيء بالخراج والجزية.- أيضاً كانت الجزية قانوناً قائماً وحكماً ثابتاً على أهل الكتاب الذين يطيقون حمل السلاح لقوله تعالى (... حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) (29 التوبة)، ولكن عندما اراد سيدنا عمر أخذ الجزية من نصارى بني تغلب، قيل له: (انهم عرب وقد اعلنوا نفورهم عن دفع الجزية والمحوا الى ان فرضها عليهم سيغير من ولائهم الذي محضوه للدولة) فقبل سيدنا عمر الحجة واسقط عنهم الجزية.(وردت عند شمس الدين ضو البيت 2004.
والخلاصة من اجتهادات سيدنا عمر رضى الله عنه ان الكثير من الاحكام الدينية لها علل ومقاصد، فإذا ما تغير السياق التاريخي، بصورة انتفت معها علة الحكم، أو صار تطبيقه حرفياً قد يجهض المقصد من ورائه، فالأحكم السعي الى تحقيق المقصد بدلاً عن الجمود عند حرفية النصوص. وقد أسس فقهاء السلف مبدأ أصولياً من هذه الاجتهادات، وهو ان ان الاحكام تدور مع عللها.
وهي قاعدة تجد اتفاقاً واسعاً عليها، وهي بالطبع تثير العديد من القضايا الاشكالية، كضرورة تحديد الثابت والمتحرك، وحدود هذا التحرك، وضوابطه، بحيث يظل في اطار الدين وليس خارجاً عنه، وهي قضايا وبرغم اشكاليتها، إلا ان مواجهتها، واقتراح حلولها، هو وحده الكفيل بتجديد وتطوير الفقه والفكر الاسلاميين، ومهما يكن، فإن مبدأ دوران الاحكام مع عللها مما يجد قبولاً واسعاً لدى السلف، وحتى وان توصل التكفيريون إلى خطئه ، وبالتالي الى تخطئة سيدنا عمر رضى الله عنه، وهذا من حقهم، فلا اعتقد بأن هناك مسلماً يرى ان من حقهم كذلك تكفير سيدنا عمر، وهو من الصحابة، ومن المبشرين بالجنة
ومادام التكفيريون والظلاميون يسارعون الى تصدير فتاوى التكفير واستباحة الأرواح، فالأجدر بهم ان يعلموا انهم لن يكونوا في منجاة من مثل هذا الاستخفاف! كيف بهم إذا اعتمد شباب المؤتمر الشعبي ، تضامناً مع شيخهم، أو غيرهم، فتوى تقتيل الغلاة والخوارج، وطبقوها عليهم، خصوصاً وانها تقضي بقتلهم كقتل عاد، ثم ان الكثير من حيثياتها تنطبق عليهم: كسمة الغلو ، في كل الاعمال ، بما في ذلك العبادات ، كما يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم :(تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم وأعمالكم مع أعمالهم)، ولكنهم مع ذلك (يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية)، وذلك لأنهم (أحداث الأسنان - أي صغار السن - سفهاء الأحلام يقولون من خير البرية ـ أي يستشهدون بالقرآن ـ لا يجاوز ايمانهم حناجرهم )، فيقضي الحديث النبوي (فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فان في قتلهم أجراً لمن قتلهم يوم القيامة). (البخاري 3414، و6531)

المتفيقهون فقهاءٌ بلا فقه! 1

مسارب الضي
المتفيقهون فقهاءٌ بلا فقه! 1
الحاج وراق
* رد أحد وزراء مالية الإنقاذ السابقين على نواب في المجلس الوطني طالبوه بزيادة ميزانية الثقافة، بأنه لن يصرف على الغناء والرقص في وقت يحتاج فيه الجنود إلى المال! وغض النظر عن الرأى في حرب الإنقاذ، ففي عقلية الوزير أحد أسباب أن الانقاذ لم تكسب حربها! فالحرب لا تنفصل عن العقلية السائدة في المجالات كافة، فإذا كانت عقلية ترفض الإبداع والحرية، فإنها تخوض الحرب على ذات النمط مما يفضي إلى الانتكاسات والخيبات!*
ومن نفس العقلية التي يصدر عنها وزير الإنقاذ السابق، علق بعض الكتاب على حملة الدفاع عن حرية الفكر والضمير بأنها معركة في غير معترك، وان أولويات البلاد الضاغطة كأنفلونزا الطيور والكوليراوغيرها لأجدر بالاهتمام! وعلى عكس بما يبدو من وجاهة ظاهرية في مثل هذا الرأى، فإنه لا يعدو كونه مزايدة خاطئة. فالحقيقة ان الحرية، وعلى رأسها حرية الفكر والضمير، تشكل العلامة الفارقة بين الأزمنة القديمة وأزمنة الحداثة، وتنبع أهمية الحداثة في أنها أعطت الإنسانية التقدم العلمي، وبالتالي التراكتور - الذي أمنها من المجاعات، والمضاد الحيوي - الذي أمنها من الأوبئة الواسعة، اضافة إلى آليات الديمقراطية، خصوصاً المساءلة والمحاسبة ،التي أوقفت هدر الموارد في تبذير القصور والفساد، وبالتالي أعطتها الأساس السياسي اللازم للتنمية.
ولم تعد مثل هذه التعميمات مجرد تكهنات، وإنما استنتاجات علمية مفحوصة ومختبرة، تؤكدها دراسات تجريبية، أبرزها دراسة عالم الاقتصاد (أمارتيا سن) الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، في مؤلفه (التنمية كحرية)، والذي يؤكد عبر دراسة موثقة، بأنه ما من بلاد حرة عانت من المجاعة! والمثال الأنموذجي على ذلك المجاعة التي ضربت غرب السودان، سواء في عام 1984، أو في أوائل التسعينات، فلولا غياب حرية التعبير، وحرية المناقشة، بسبب التعتيم الذي فرضه النظامان الاستبداديان، لما تحولت الأزمة إلى كارثة، ولأمكن تعبئة الموارد المحلية والعالمية لتلافي الكارثة وإغاثة الضحايا في الوقت المناسب!
* بل وان القضايا الحالية التي تواجهها بلادنا، كاشتداد الأزمة الاجتماعية، وتفشي الفقر وسوء التغذية والأوبئة، لا يمكن عزلها عن غياب الحريات، فما من مسؤول - وزير مالية أو صحة أو والي ولاية - في بلاد حرة، يعرف بأنه مساءل أمام مواطنيه، يستطيع ان يتعامل باللامبالاة الإجرامية التي تعاملت بها الأجهزة الحكومية تجاه الأوبئة الأخيرة!
وأهم مصداق لارتباط قضية الحرية بقضايا الجماهير الحياتية، ان الذين تصدوا للدفاع عن حرية الفكر والضمير، هم أنفسهم، الأكثر تصدياً لقضايا التنمية والفقر والبطالة والخدمات الصحية والتعليمية، وأذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: علي محمود حسنين، الطيب زين العابدين، مرتضى الغالي، فيصل محمد صالح، زهير السراج، صلاح عووضة، كمال الجزولي، آمال عباس، رباح الصادق المهدي، حيدر المكاشفي، فيصل الباقر، خالد فضل، مكي بلايل...إلخ.
* وهكذا فلا يمكن الفصل بين الحرية والتنمية إلاَّ اعتسافاً، بل ان التنمية في جوهرها حرية، فتوفير فرص العمل والسلع والخدمات الصحية والتعليمية يكتسب أهميته الإنسانية من كونه يوسع مدى الحريات والخيارات المتاحة للجماهير، ولذا فالمعركة واحدة لا تتجزأ، فمناخ الاستبداد، والعقلية التقليدية الراكدة والجامدة التي تؤسسه وتتأسس عليه، إنما يشكلان الأساس الموضوعي للقهر وإراقة الدماء، من جانب، ومن الجانب الثاني، يشكلان الأساس لتفشي الفقر والبطالة وسوء التغذية والأوبئة، ومن الجانب الثالث، يشكلان البيئة المناسبة لتوالد الظلامية والهوس الديني، ولصعود خفاف العقول والأحلام يتصدرون مجالس العلم والفتيا ويصدرون بيانات التكفير والزندقة!!
* هذا عن ارتباط الحرية بالاحتياجات الحياتية المباشرة، ولكن الامر لا يتوقف عند ذلك، بل أخطر بكثير، انها ترتبط بالحياة نفسها، حيث ضمان حرية الفكر والضمير يشكل ضماناً لاستقرار البلاد ولسلامها الاجتماعي، وبالتالي ضماناً لا غنى عنه للحفاظ على أرواح السودانيين. ومن يحاجج في سلامة مثل هذا الاستنتاج فيكفيه تذكر الخليفي وعباس الباقر، اللذين فتحا النار بدم بارد على المصلين في مسجدي الثورة والجرافة، ولم يوفرا لا بريئاً ولا شيخاً ولا إمرأة، بل وسفكا دماء الاطفال استناداً على فقهما الظلامي الموتور بأن الكافر لا يلد إلا كافراً!!
ولكن الخليفي وعباس الباقر ليسا ظاهرة استثنائية، انهما تعبير عن وباء عام يجتاح كامل المنطقة العربية والإسلامية، ويتمظهر يومياً في مرأى التفجيرات وفي تلال الجثث وأشلاء الضحايا في بغداد والرياض وشرم الشيخ والجزائر والدار البيضاء وغيرها من المدن والضواحي الإسلامية! ثم انهما تعبير عن ذات وباء انفلونزا التكفير واراقة الدماء التي تبدو اعراضها مكتملة في الجماعات التي تنشط هذه الايام تحت لافتات الرابطة الشرعية وتنسيق الجماعات الإسلامية ومجمع الفقه الاسلامي!
والمعركة مع هذه الجماعات الظلامية التكفيرية معركة لا محيص عنها ولا مهرب منها، وعلى نتائج هذه المعركة ستتحدد مصائر البلاد - مصائر حريتها ووحدتها واستقرارها وسلامها الاجتماعي.
* وهكذا فالمعركة تتعدى الموقف من الترابي، ولسنا أغراراً، اننا على قناعة بأن الترابي اول من شحذ سلاح التكفير، وقد ظللنا نحذره تكراراً بأنه سلاح صدئ ومن اسلحة الارتداد الذاتي، ما ان تشهره تجاه الخصم، فإنه عاجلاً أو آجلاً يرتد تجاه النحر! ثم انه من قنن المادة (126) من القانون الجنائي التي تتيح سفك دماء المخالفين في الرأي!لسنا أغراراً، ولكنا ندافع عن مبدأ حرية الفكر والضمير.
ولذا فإن معركتنا تتعدى الموقف من شخص الترابي، ومن آرائه التي صدع بها مؤخراً، وهي آراء قابلة للنقاش، قد نتفق أو نختلف معها، وسأتناولها لاحقاً، ولكننا مع حقه في حرية التفكير والتعبير، واذا كان الترابي كشخص قد انتهك هذا المبدأ مراراً وتكراراً فما يؤكد اهميته كمبدأ احتياجه نفسه إليه حالياً!وبالنسبة لأي ديمقراطي متسق فإن الدفاع عن مبدأ الحرية لا يتجلى في الدفاع عن حق أولئك الذين يتفق معهم في الرأي، وإنما كذلك في الدفاع عن حرية الذين يختلف معهم !
* وأياً ما يكن سوء الترابي، فإن سوءه لا يمكن مقارنته بعباس الباقر والخليفي وورثتهما من أئمة الظلامية كعبد الحي يوسف ومحمد عبد الكريم ومن لف لفهما!وعليه فإن المعركة ليست معركة للدفاع عن الترابي في شخصه، وان تمظهرت كذلك، انها معركة لأجل الحرية والاستنارة، ومعركة حول مصائر البلاد، حول استقرارها ووحدتها، وعلى حرية وسلامة أهلها.

المتفيقهون فقهاء بلا فقه! --2

مسارب الضي
المتفيقهون فقهاء بلا فقه! 2
الحاج وراق
افتى فقهاء مجمع الفقه الاسلامي بكفر الترابي، ودعوا الى استتابته، فإن لم يفعل، فلا بد من احقاق الحق(!) في اشارة كودية الى الدعوة الى قتله، حيث لم يتصفوا بسعة الافق التي تجعلهم يحتملون المغايرة، ولا بالسماحة التي تعصمهم من الدعوة الى سفك دمه، ولكن، ومع ذلك لم يمتلكوا الشجاعة للجهر بدعواهم! ولكن فقهاء الرابطة الشرعية، الذين لا تربطهم علاقة «تلمذة» سابقة بالترابي، والذين اقل تعرضا للشك بحكم انهم اقل معرفة، حتى مقارنة برصفائهم في المجمع، لم يستشعروا حرجا، فصرحوا بما لمح به اولئك، واضافوا له فتوى الزندقة، وهي بحسب زعمهم فتوى تجعل الترابي مستحقا للقتل، حتى وان تاب وأناب، واعلن رجوعه الكامل عن آرائه!
.والفقيه الحق، اضافة الى اهمية امتلاكه عقلا، حيث لا دين لمن لا عقل له (!)، ومعرفته بمعايير الفتوى، اي معرفته العميقة بالمصادر الشرعية كالقرآن والسنة وعمل الصحابة واجماع العلماء وغيرها، ومعرفته بلغة هذه المصادر ـ اللغة العربية، لا بد له كذلك من معرفة الواقع الذي تتنزل عليه هذه المعايير العامة، ومثل هذه المواصفات تكاد تدخل في حكم البداهات، ولكننا في زمن صارت فيه البداهات نفسها مما يحتاج الى تأكيد!
تحتاج الى تأكيد لأن المتفيقهين يزعمون بأنهم فقهاء! فأما ذهولهم عن واقع البلاد وواقع العالم المعاصر فيصل حدا يجعل السؤال عن حقيقة امتلاكهم عقولا سؤالا مشروعا! وابلغ دليل على مثل هذا الذهول المرضي ان مجمع الفقه الذي يكفر (اهل الكتاب)، ويدعو بالتالي الى تطبيق حرفي لظاهر النصوص في استباحة دمائهم او دفعهم الجزية عن يد وهم صاغرون، هذا المجمع نفسه كأحد اجهزة رئاسة الجمهورية يتبع لها ومساءل امامها ويعلوه فيها (كتابي)، هو النائب الاول سلفاكير!! وقطعا ان الموظف (التابع) لا يملك ان يستبيح دم مخدمه! وقطعا ان تناقضات كهذه لا تتعايش بمثل هذه الفجاجة الا في عقل فقد قدرته على (عقال) الواقع من حوله!واما ذهولهم عن حقائق العالم المعاصر فيتبدى في عدم معرفتهم بأننا في العصر النووي، وان الكفار والصليبيين اذا طبقوا معايير مجمع الفقه والرابطة الشرعية على المخالفين في العقيدة، اي على المسلمين، فإن ما لا يزيد عن عشرين قنبلة نووية تاكتيكية كافية لمسح العالم الاسلامي من الخريطة!
صحيح ان هذا مستحيل، ليس بسبب عدم توفر القدرة العسكرية او التقنية، وانما بسبب القيم التي يسميها الظلاميون قيما «كفرية»، اي بسبب قيم حقوق الانسان،وهي قيم استولت على الرأي العام العالمي، وصارت ضابطا، وان لم يكن حاسما، للضواري الاستعمارية من ان تطيح في العالم على هواها!
ولكن، ومع ذلك، فإن في هذا دليلا كافيا على بؤس الظلامية، فأيما مبدأ اخلاقي لا يكتسب اخلاقيته الا حين يكون من الممكن التزامه في جميع الحالات الشبيهة، فهل يصلح مبدأ استباحة دم المخالف في العقيدة، مبدأ حاكما في العصر النووي؟! واذاطبق فمن يكسب ومن يخسر؟!
ان مثل هذه الاسئلة البديهية التي يذهل عنها العقل الظلامي، انما تجيب عن مقدار غيبوبته، وتقدم تفسيرا لتوتره المرضي تجاه محاولات افاقته على هذه الحقائق، و تفسيرا لضجيجه الصخّاب للتغطية عليها بالصياح بتهم التكفير والزندقة!!
اذن فذهولهم عن العالم المعاصر، وعن واقع البلاد، مما لا يحتاج إلى بيان، ولكن الأنكى أنهم قاصرون حتى عن معرفة المعايير الشرعية نفسها، فهذه المعايير، تتعامل مع قضية التكفير بحرص بالغ وتدقيق شديد، ولفائدتهم فإننا نحيلهم إلى المصادر الشرعية وإلى الارث السلفي الذي يزعمون انطلاقهم منه!
روى أسامة بن زيد رضى الله عنه، قال: (بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحرقة من جهينة، فصبحنا القوم فهزمناهم، ولحقت أنا ورجل من الانصار رجلاً منهم، فلما غشيناهم قال: لا إله إلا الله، فكف عنه الانصاري، وطعنته برمحي حتى قتلته، قال، فلما قدمنا بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي: يا أسامة، أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله، قال: قلت: يا رسول الله إنما كان متعوذاً. قال: أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله، فمازال يكررها حتى تمنيت اني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم) «البخاري 4269، مسلم 96».
حديث المقداد بن الأسود رضى الله عنه، أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (أرأيت ان لقيت رجلاً من الكفار فاقتتلنا فضرب احدى يدي بالسيف فقطعها، ثم لاذ مني بشجرة فقال: أسلمت لله أأقتله يا رسول الله بعد ان قالها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقتله فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله، وانك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال.) «البخاري 6865، مسلم 95». ما رواه عبد الله بن عمر رضى الله عنهما قال: (بعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة فدعاهم إلى الاسلام، فلم يحسنوا ان يقولوا أسلمنا فجعلوا يقولون: صبأنا صبأنا. فجعل خالد يقتل فيهم ويأسر ودفع إلى كل رجل منا أسيره حتى إذا كان يوم أمر خالد ان يقتل كل رجل منا أسيره، فقلت: والله لا اقتل أسيري ولا يقتل رجل من أصحابي أسيره حتى قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم فذكرناه، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه فقال: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد.) البخاري في المفازى 4339

المتفيقهون فقهاء بلا فقه! 3

مسارب الضي
المتفيقهون فقهاء بلا فقه! 3
الحاج وراق
* تحرِّم النصوص الدينية تكفير المسلم، لقوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم لست مؤمناً» «النساء 94»، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا واكل ذبيحتنا فهو المسلم، له ما لنا وعليه ما علينا» «رواه البخاري بنحوه 384».} واستشعارا لخطورة الفتوى بالتكفير، وانطلاقا من الورع الديني اللازم في قضية بهذه الخطورة، فإن علماء السلف المرموقين قد شددوا على ضرورة الاحتياط والتدقيق في مثل هذه الفتاوى، وهذا قبل الازمنة الحديثة، التي تأسست فيها ثقافة حقوق الانسان بشكل ناجز، والتي تشمل ضمن ما تشمل كفالة حرية الاعتقاد، فصارت عرفا معروفا، يتعين على المسلم اخذه ما دام مطالبا بالاخذ بالمعروف، ولكن قبل هذه الازمنة الحديثة فإن فقهاء السلف يبدون حرصا يختلف جذريا عن خفة ومسارعة المتفيقهين في توزيع صكوك التكفير والزندقة، وأدناه انشر بعض اقوال ائمة السلف لتأكيد ما ذهبنا اليه بأن المتفيقهين فقهاء بلا فقه:} قال ابن تيميه: «ليس لاحد ان يكفر احدا من المسلمين وان اخطأ حتى تقام عليه الحجة وتبين له الحجة، ومن ثبت اسلامه بيقين لم يزل عنه بالشك، بل لا يزول الا بعد اقامة الحجة وازالة الشبهة».وقال ايضا ـ معلقا على حديث: «ان الله تجاوز لي عن امتي الخطأ والنسيان»: وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية والمسائل العملية، وما زال السلف يتنازعون في كثير من هذه المسائل، ولم يشهد احد منهم على احد لا بكفر ولا بفسق ولا بمعصية».
* وقال حجة الاسلام الغزالي: «... ينبغي الاحتراز عن التكفير ما وجد اليه سبيلا، فإن استباحة الدماء والاموال من المصلين الى القبلة المصرحين بالتوحيد خطأ، والخطأ في ترك الف كافر في الحياة اهون من الخطأ في سفك دم مسلم.»
* وقال الزنجاني: «التكفير والتضليل والتبديع خطر، والواجب الاحتياط، وعلى المكلف الاحتراز عن مواضع الشبهة ومظان الزلق ومواضع الخلاف».
* ويقول شيخ الاسلام تقي الدين السبكي: «كل من خاف الله عز وجل، استعظم القول بالتكفير لمن يقول: لا اله الا الله محمد رسول الله، اذ التكفير هائل عظيم الخطر، لأن من كفّر شخصا بعينه فكأنما اخبر ان مصيره في الآخرة جهنم خالدا فيها ابد الآبدين، وانه في الدنيا مباح الدم والمال، لا يمكّن من نكاح مسلمة ولا يجري عليه احكام المسلمين لا في حياته ولا بعد مماته، والخطأ في ترك الف كافر اهون من الخطر في سفك محجمة من دم امريء مسلم، وفي الحديث: «ادرأوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فإن كان له مخرج فخلوا سبيله، فإن الامام ان يخطيء في العفو خير من ان يخطيء في العقوبة».ثم ان تلك المسائل التي يفتي فيها بتكفير هؤلاء القوم في غاية الدقة والغموض، لكثرة شبهها واختلاف قرائنها وتفاوت دواعي اهلها.ويحتاج من يحيط بالحق فيها الى الاستقصاء في معرفة الخطأ من سائر صنوف وجوهه، والاطلاع على دقائق التأويل وشرائطه، ومعرفة للالفاظ المحتملة للتأويل وغير المحتملة، وذلك يستدعي معرفة جميع طرق اهل اللسان من سائر قبائل العرب في حقائقها ومجازاتها واستعاراتها ومعرفة دقائق التوحيد وغوامضه، الى غير ذلك مما يتعذر جدا على اكابر علماء عصرنا فضلا عن غيرهم.وان كان الانسان يعجز عن تحرير معتقده في عبارة فكيف يحرر اعتقاد غيره من عبارته؟فما بقي الحكم بالتكفير الا لمن صرح بالكفر واختاره دينا وجحد الشهادتين وخرج عن دين الاسلام، وهذا نادر وقوعه.».
* وقال خاتمة متأخري الشافعية العلامة ابن حجر الهيثمي: «ينبغي للمفتي ان يحتاط في التكفير ما امكنه، لعظيم خطره وغلبة عدم قصده، سيما من العوام وما زال ائمتنا على ذلك قديما وحديثا.».ü وقال العلامة ابن الهمام من الحنفية: «ولا شك انه يجب ان يحتاط في عدم تكفير المسلم حتى قالوا: اذا كان في المسألة وجوه كثيرة توجب التكفير، ووجه واحد يمنعه على المفتي ان يميل اليه ويبني عليه.».
* وجاء في البحر الرائق: «وفي جامع الفضوليين روى الطحاوي عن اصحابنا لا يخرج الرجل من الايمان الا جحود ما ادخله فيه...»وفي الخلاصة: «اذا كان في المسألة وجوه توجب التكفير، ووجه واحد يمنع التكفير فعلى المفتي ان يميل الى الوجه الذي يمنع التكفير تحسينا للظن بالمسلم... وفي التتارخانية: لا يكفر بالمحتمل، لأن الكفر نهاية في العقوبة فيستدعي نهاية في الجناية، ومع الاحتمال لا نهاية».
* وقال الشوكاني: « اعلم أن الحكم على رجل مسلم بخروجه عن دين الاسلام ودخوله في الكفر لا ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر ان يقدم عليه الا ببرهان اوضح من شمس النهار.».راجع «د. عمر عبد الله كامل ـ مبدآن هامان ـ

المتفيقهون فقهاء بلا فقه!--5

مسارب الضي
المتفيقهون فقهاء بلا فقه! (5)
الحاج وراق
* ركزتُ في الحلقات السابقة على الدفاع عن مبدأ حرية الفكر والضمير، للجميع، بمن فيهم د. الترابي، ودافعت عن حقه في قول ما قال به، خصوصاً في مواجهة التكفيريين والظلاميين، الذين يشكلون خطراً ماثلاً وعظيماً على البلاد - على وحدتها الوطنية وسلامها الاجتماعي وعلى ديمقراطيتها واستقرارها السياسي، اللاحقين، ولذا فقد تجاوزت في السابق مناقشة آراء الترابي في ذاتها، فالمناقشة لا تتم إلا بعد اقرارها ابتداء كمبدأ، وبالطبع فان الداعين إلى سفك الدماء لا يعتمدونها كآلية لفض المنازعات الفكرية والفقهية!والآن إذ دافعنا وأرسينا مبدأ المناقشة، فأود ابداء بعض الملاحظات على آراء د. الترابي.
* والملاحظة المنهاجية الاساسية، غض النظر عن تفاصيل الآراء، تتعلق بأن هذه الآراء، ورغم طابعها الاجتهادي، إلا انها بلا منهج تجديد معلن، آراء مرسلة هكذا، بلا تأسيس فكري وفقهي كافيين، وبلا منهجية محددة في التعامل مع النصوص الدينية، بل وبلا حجج ولا اثباتات، كأنما صدورها عن الترابي شخصياً كاف في حد ذاته لاثباتها، أو ان عبء اثباتها يقع على المريدين، الاقل شأناً وعلماً!!
* والترابي ليس أول من مارس الاجتهاد في التاريخ الاسلامي، ولا أول من قارب موضوعات كوضعية النساء والعلاقة بالآخر (أهل الكتاب)، ولكن الاجتهادات التي أثمرت وساهمت في التراكم الفكري والفقهي في التاريخ الاسلامي انما هي الاجتهادات التي توفرت على موضوعها، فحاججت وقارنت وفندت ودحضت، وبالنتيجة خلفت منهجاً محدداً في التجديد الديني، ذلك ان هذا المنهج المحدد إذ يتعرض للنقد النظري والعملي، يكشف عن جوانبه المثمرة، والتي يتم تبنيها في أية اجتهادات لاحقة، وكذلك عن جوانب قصوره التي يتم طرحها وتجاوزها لاحقاً، وهذا ما يعطي مثل هذه الاجتهادات، ورغم ما فيها من اخطاء، طابعاً ايجابياً، لأنها تمثل لبنات في بناء معرفي نامٍ ومتصاعد.
* وفي هذا الاطار يمكن الاشارة إلى العديد من الاجتهادات ، بدءاً من المعتزلة، الذين طرحوا منهجاً للتفريق بين مُحكم ومتشابه القرآن، وصاغوا مقولة المجاز لفض التعارض الظاهري بين المحكم والمتشابه، وبرغم تقادم السنين، وغض النظر عن تفاصيل آراء المعتزلة، فان تمييزهم ذاك ، لا يزال، وحتى الآن، يتسم بثراء فكري وفقهي.وكذلك منهج المتصوفة في التمييز بين المعنى الظاهر والباطن للنصوص الدينية، ومن ثم استخدام التأويل كآلية منهاجية في مقاربة النصوص، وفي فك تعارض متشابهها، وفي توليد المعاني الجديدة، هذا المنهج، حتى ولو لم يصل استخدامه الى المدى الواسع في الاستخدام الصوفي، فإنه منهج لا غنى عنه في مقاربة النصوص الدينية، بل وأية نصوص اخرى.أو منهج الفلاسفة المسلمين، كابن رشد، والذين حاولوا التوفيق بين (الشريعة والحكمة)، على قاعدة وحدة الحقيقة وتعدد وسائلها، وأما اذا «خالف صحيح المنقول صحيح المعقول فيأول صحيح المنقول ليوافق صحيح المعقول»، كما يقول ابن رشد، ولايزال العالم الاسلامي، وحتى الآن، يواجه قضية المواءمة بين النقل والعقل، أو بين الاصل والعصر، ويستطيع ان يتعلم الكثير من الأولوية التي اعطاها الفلاسفة للعقل في مقاربة المشكلات، وفي فهم النصوص، وفي تأويلها، وفي مواءمتها مع الأوضاع الجديدة.وكذلك منهجية (مقاصد الشريعة)، كأساس منهجي لتنزيل النصوص على الواقع، والتي صاغها في صورتها الجنينية الامام الغزالي، ثم اكتسبت طابعها المؤسس والمنهاجي لدى الامام الشاطبي.
* وفي الازمنة المعاصرة، يمكن تعداد الكثير من المقاربات المنهاجية للتجديد الديني، ويشغل فيها الاسهام السوداني مكاناً متقدماً، قياساً بالعالم الاسلامي، واذكر منها على سبيل المثال، منهجية الاستاذ/ محمود محمد طه القائمة على التمييز بين الاصول والفروع، ومنهجية الامام الصادق المهدي (التي تضع كآلية للاجتهاد النص الديني القطعي زائداً المقاصد والحكمة والمصلحة والعقل والعدل والسياسة الشرعية والمعرفة الانسانية)، وكذلك منهجية د. نصر حامد أبو زيد - المفكر المصري - والقائمة على (التاريخية) أي على ضرورة فهم النص في سياقه التاريخي، ومنهجية جمال البنا - مفكر مصري أيضاً - القائمة على (الكتاب والحكمة)، ومنهجية طه ابراهيم (المحامي السوداني) والتي يمكن وصفها بمنهجية (الاستطاعة) - أي رفع الحرج عن المسلمين بتجاوز ما لا يدخل في استطاعتهم بتغير الظروف التاريخية، ومنهجية شمس الدين ضو البيت التي تجمع ما بين (الكتاب والحكمة) و(التاريخية) وتذهب بهما إلى مداهما..... وغيرها من الاجتهادات.
* ولكن، في المقابل، فإن د. الترابي، وبدلاً عن ارساء منهج محدد للتجديد، فانه يكتفي باقتراحات ذات طابع عام عن أهمية (تجديد) الفكر الديني و(تجديد) أصول الفقه الاسلامي، دون ان يحدد ماهية هذا التجديد، وقواعده، وضوابطه!ورغم استنارة عديد من آراء د. الترابي، كآرائه عن الردة وعن المرأة والفنون، إلا ان تسيبه المنهجي، خلاف خطئه نظرياً، فان له مخاطر بالغة، وهي ليست مجرد مخاطر نظرية، وانما مخاطر عملية وملموسة، تؤكدها تجربة الترابي السياسية، حيث يتيح هذا التسيب المنهجي الدفاع عن الفكرة ونقيضها، عن الحرية وعن القمع، وعن العمل السياسي المدني وعن الارهاب، وأيما مراقب لمسيرة د.الترابي يستطيع ان يلحظ هذا (التسوق) بين النقائض المختلفة، على مر الازمان، وباختلاف مصالحه الحزبية والشخصية!
* وأما الخطورة الثانية، ومرتبطة بالأولى، ولا تقل عنها اهمية، فان التسيب المنهجي، يجعل التجديد ليس قائماً على معايير محددة ومعلنة، يستطيع أياً من كان استخدامها، وانما ممارسة مزاجية تعسفية، وبالتالي تتحدد المرجعية النهائية، لا بالمعايير الموضوعية، وانما بمزاجية المجتهد، أي بحسب ما يراه (المجتهد الاوثق)، في مصطلح د.الترابي، وبالطبع فان (المجتهد الاوثق) المعني انما هو الترابي نفسه!!واذا كان أحد الباحثين السودانيين ـ د.عبد السلام سيد أحمد ـ قد لخص تجربة الترابي السياسية في مقولة نظرية بأن الدولة الاسلامية عند الترابي، ليست الدولة التي تحكمها قيم معينة وانما تلك التي يحكمها الاسلاميون، واضاف اليه باحث غربي ـ وال ـ بان الدولة الاسلامية عند الترابي انما هي الدولة التي يحكمها الترابي نفسه(!)، اذا كان ذلك في السياسة، ففي الفكر فان التسيب المنهجي للترابي انما يؤدي الى ان الفكرة المعنية اسلامية لانها قد نطق بها الترابي!!
* وقد لاحظ د.عبد الوهاب الافندي، بأن تلامذة د.الترابي، خصوصاً الحاكمين، يضمرون احتقارا بالغا للشعب السوداني، ولكن الافندي لم يصل بملاحظته الصحيحة الى أساسها الفكري لدى الترابي، ذلك ان التسيب المنهجي، الذي ذكرناه ، ليس مجرد هفوة فكرية، وانما اختيار ايديولوجي ، يهدف الى تحطيم المرجعيات الموضوعية، سواء نصا او عقلا، واحلال (القائد) مكانها! وهذه ذات الفكرة التي تأسست عليها الفاشية، والتي تقود حتماً الى احتقار الشعوب، والى المذابح والكوارث الانسانية، ولسبب واضح، لان معيار الصحة لا يعد حينها خير الانسان، ولا مصالح الشعب، ولا الواقع، وانما الاختيارات المزاجية والتحكمية للجماعة المعينة ولقائدها (السوبر) او (الاوثق)! وبالطبع فان الجماعة، وكذلك القائد، اللذين لا يستشعران اية رقابة عليهما من خارج معاييرهما الذاتية، يكونان على استعداد لفعل كل شيء، بما في ذلك افظع الجرائم ، لانه بغياب مرجعية الانسان والعقل والواقع يتساوي كل شيء بأي شيء، بما في ذلك الجرائم والمآثر، والضحايا والجلادين