حول "التفسير التوحيدي" للدكتور حسن الترابي
ملاحظات حول "التفسير التوحيدي" للدكتور حسن الترابي
د. عباس محمد حسن
صدر الجزء الأول من كتاب " التفسير التوحيدي " للدكتور حسن الترابي عن دار الساقي شاملاً لمجموعة سور القرآن الكريم من سورة الفاتحة حتى سورة التوبة وبمقدمة فيما أسماه المؤلف " منهج التفسير التوحيدي" ..وقد بذل فيه المؤلف مجهودا ضخما يشكر عليه ... وهو اجتهاد في تفسير القرآن الكريم علي هدى هذا المنهج .. وقد قرأته بشغف واهتمام. فخرجت بهذه الملاحظات وهي ملاحظات اشرت فيها الي ما اثاره المؤلف من جانب و ما أثارته وتثيره دراسات اخري قديمة وجديدة من جانب آخر ويمكن الرجوع اليها للمزيد من الاطلاع والدراسة والتقصي :
يبدأ المؤلف تفسيره لكل سورة من سور القرآن الكريم بخلاصة لهدي السورة وهومنهج نجده كمثال في كتاب الآستاذ سيد قطب " في ظلال القرآن " وفي هذا الجزء من التفسير يبث المؤلف مفهومه هو ونصوص مذهبه كأنها هي المعني الوحيد الأصلي الذي يحتمله هدي السورة حيث يعتقد المؤلف بأن ما يراه هو الأكثر تطابقاً مع الحقيقة.
ان نقد المؤلف لتفاسير القرآن الكريم التي اخذت بأسباب النزول ووصفها بأنها أخذت تفارق وحدة القرآن ذكراً وهدياً للحياة كافة يغفل عن قصد أهمية علم " أسباب النزول " كعلم دال وكاشف عن علاقة الآيات المعينة بالواقع . فمن الحقائق المعروفة ان القرآن قد نزل " منجماً " علي بضع وعشرين سنة وان كل آية أو مجموعة من الآيات نزلت عند سبب خاص استوجب انزالها وان الآيات التي نزلت ابتداء – أي دون علة خارجية – قليلة جداً . وقد ادرك علماء القرآن ان السبب او المناسبة المعينة هي التي تحدد الاطار الواقعي الذي يمكن فهم الآية او الآيات من خلاله . او بعبارة أخرى أدرك علماء القرآن ان قدرة المفسر علي فهم دلالة الآيات لابد ان تسبقها معرفة بالوقائع التي انتجت هذه الآيات. (مفهوم النص) .. وقد قال ابن تيمية: " معرفة سبب النزول يعين علي فهم الآية فان العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب " – ( الاتقان في علوم القرآن) ومن فوائده معرفة وجه الحكمة الباعثة علي تشريع الحكم والوقوف علي المعني وتخصيص الحكم به عند من يري ان العبرة بخصوص السبب وكون اللفظ عاما ويقوم الدليل علي التخصيص ودفع توهم الحصر ( انظر البرهان للزركشي).
في تفسير معاني الآيات فلا يخرج تفسير الترابي عن المزاوجة بين ما جاء في كتب التفاسير المختلفة . وكمثال علي ذلك نورد التالي:
فحين يقول المؤلف ان فاتحة الكتاب هي أم الكتاب التي جمعت معانيه واجملتها في آياتها القليلة العدد يقول ابن كثيرإنما سميت ام الكتاب لرجوع معاني القرآن كله الي ما تضمنته. ويقول الزمخشري : تسمي ام القرآن لاشتمالها علي المعاني التي في القرآن.
ويقول المؤلف : " لقد أطلق عليها بآياتها السبع اسم السبع المثاني .. واصبح مثني بها ركعة بعد ركعة .. " تقول حاشية الكشاف للزمخشري : " والمثاني لأنها تثني في كل ركعة بمعني انها تكرر في كل ركعة " ويقول سيد قطب " لأنها تثني بها وتكرر في الصلاة".
يقول المؤلف:" فالمؤمن العابد يولي وجه ربه الواحد بكل حركة وسكون في حياته فيشرعها باسم الله قاصدا قائلاً " أقوم باسم الله ،أقعد باسم الله، آكل باسم الله ، أنام باسم الله ... " ويقول الزمخشري " ... وكان المعني بسم الله احل وبسم الله أرحل للمسافر إذا حل أو إرتحل وكذلك الذابح وكل فاعل يبدأ في فعله ببسم الله كان مضمراً ما جعل التسمية مبدأ له " .. ويقول سيد قطب : " .. فباسمه اذن يكون كل ابتداء وباسمه اذن تكون كل حركة وكل اتجاه."
ويقول المؤلف :" الله هو الاله المعهود الأوحد .. والاسم إله منصرف من الوله بمعني الانعطاف بعد الحيرة والشفقة .. " ويقول القرطبي فيما نقله ابن كثير :" الله هو مشتق من وله اذا تحير .. "
ويقول المؤلف في مالك يوم الدين : ملك في قراءة ومالك في قراءة أخرى والاولي أرجح تعريفا لامع كلمة " الملك " بل كلمة " الملك " التي وردت في آيات القرآن منسوبة الي الله ، له ملك السماوات والأرض – بضم الميم – " ... والمالك قد لا يملك مطلق التصرف فيما يملك لا كالملك – بفتح الميم " ويقول ابن كثير:(قرأ يعض القراء"ملك يوم الدين") وقرأ آخرون "مالك" وملك مأخوذة من الملك كما في قوله تعالي ( لمن الملك اليوم للواحد القهار ) وقوله الحق وله الملك ويقول الزمخشري : قرئ ( ملك يوم الدين : ومالك وملك ) بتخفيف اللام – وملك هو الاختيار لأنه قراءة أهل الحرمين ولقوله – لمن الملك اليوم – ولقوله ملك الناس ولأن الملك يعم والملك يخص ...
ويقول المؤلف في " الم " ان الألف بهمزها من الحروف الحلقية واللام لسانية بينما الميم شفوية وهي حروف متوالية تمثل كل مخارج النطق للحروف العربية .. وقد ذكر ذلك الزركشي في البرهان فقال : " ان الألف اذا بدء بها أولا كانت همزة وهي أول المخارج من أقصي الصدر واللام من وسط مخارج الحروف وهي أشد الحروف اعتمادا على اللسان والميم آخر الحروف ومخرجها من الفم . وهذه الثلاثة هي أصل مخارج الحروف أعني الحلق واللسان والشفتين. ولكن كل ذلك تأويل ( بمعني الاستنباط ) لأن هذه الدلالات التي ذكرها الترابي أو الزركشي أو الزمخشري هي دلالات اضافتها الثقافة علي هذه الحروف بعد تطور فهم البناء اللغوي – فهناك تقسيمات مختلفة للحروف فقد ذكر الزمخشري مثلاً ان أصناف أجناس الحروف هي: المهموسة والمجهورة والشديدة والمطبقة والمستعلية والمنخفضة وحروف القلقلة – كما أن الباقلاني قد أشار الي تقسيم أهل العربية للحروف علي وجوه مختلفة منها انهم قسموها الي حروف مهموسة واخري مجهورة وكذلك قسموها الي ضربين : أحدهما حروف الحلق وغير حروف الحلق وكذلك تقسيمها الي :حروف غير شديدة وحروف شديدة غير أنه قد حدثت تطورات كبيرة في تقسيم الأصوات الآن مخالف لتقسيم القدماء الذين كانوا يعتمدون على مجرد الملاحظة المباشرة اضافة الي تطور نطق بعض الأصوات في اللغة الحديثة (مفهوم النص ). ويقول المؤلف : " ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين " : ذلك : اشارة الي الابعد بحرف خطاب وهي اشارة الي رفعة القرآن ، ليس بعداً عن الانسان بل خطاب يعليه للقارئ منذ الرسول – صلي الله عليه وسلم – هو نفس المعني الوارد بحاشية الزمخشري " ذلك الكتاب " : ان قلت لم صحت الاشارة بذلك الي ماليس ببعيد .. الخ " قال أحمد رحمه الله : ولأن البعدهنا باعتبار علو المنزلة وبعد مرتبة المشار إليه( القرآن ) من مرتبة كل كتاب سواه ونكتفي بهذه الأمثلة على اعتماد المؤلف في تفسير معاني الآيات علي كثير مما ورد في التفاسير المختلفة.
والأصل الاشتقاقي لكلمة تفسير هي من سفر ويتفرع منها دلالة الكشف والظهور ( سفر الصبح واسفر : أضاء) كما يرتبط بدلالة الكشف والبيان فالسفر بكسر السين هو الكتاب واذن فالتفسير هو الكشف عن شئ مختبئ من خلال وسيط ويقول الزركشي في البرهان " واما التفسير في اللغة فهو راجع الي معني الاظهار والكشف وأصله في اللغة من التفسرة وهي القليل من الماء الذي ينظر فيه الأطباء ، فكما ان الطبيب بالنظر فيه يكشف عن علة المريض فكذلك المفسر يكشف شأن الآية وقصصها ومعناها والسبب الذي انزلت فيه ... فالتفسير كشف المغلق من المراد بلفظه واطلاق للمحتبس عن الفهم به ... "
يغلب على التفسير النقل والرواية بينما يرتبط التأويل بالاستنباط وهنا يلعب المؤول دورا مهما فاذا لم يلتزم بأصول علم التفسير واذا اخضع الآيات لأهواء الذات وميوله الشخصية وايدولوجياته واستعمال دلالات ومغزي لا يمت الي الآيات بصلة وانما يستخدمه لخدمة ايدولوجياته بصرف النظر عن المعطيات اللغوية والمفهومية. فقد جاء بتأويل غير مقبول يعتبره القدماء تأويلاً محظوراً ومكروهاً ومخالفاً لمنطوق الآيات ومفهومها....
ان المفسر يقف عند حدود علوم القرآن وعلوم اللغة يعتمد في معرفة الأولي علي الرواية ويعتمد في معرفة الثانية علي جهد علماء اللغة المتخصصين في ميادين الصيغ الصرفية ودلالاتها ودلالة الألفاظ المفردة ومدلولاتها وكيفية الاشتقاق والتصريف اللغوي وقوانين النحو والاعراب وعلوم البلاغة ( من معاني وبديع وبيان ) وعندها يصبح قادراً على اكتشاف دلالة الآيات ويصبح مفسراً ( مفهوم النص) ..
يري المؤلف ان التفسير الصادق ينبغي ان يخاطب عصره بلغة عربية يفهمها الخلف ولكن المؤلف لم يلتزم بذلك ولم يخاطب الناس بما يفهمونه من لغة بسيطة سهلة فانظر الي بعض هذه الأساليب اللغوية التي استخدمها المؤلف : " .... وكيف ارادوا القيادة له عن ارث وثروة لا عن كفاية ، وكيف تعرضوا لفتنة تراخي النفير تلبثاً عند نهر عارض .. " أو " ... كان الأحرار – عن اعراف العرب الجاهلية – يتفاضلون لا يتكافئون قصاصاً ... " أو " ... يبتغونهم فخمه – في جانحة من فرسان قريش ..." وبدلا من ان يجد القارئ نفسه امام تفسير سهل لمفردات لآيات القرآن الكريم فان عليه ان يجد تفسيراً لمفردات التفسير !! لقد نقل القرآن الكريم اللغة العربية من طور الي طور وحولها من لغة شعر الي لغة دين وأهلها لتكون في مرحلة ثانية لغة حضارة وكان لها قاعدة انطلاق ثم واجهت تحدي الترجمة في العصر العباسي ونجحت في ذلك ولبت احتياجات الادارة والدواوين بما تقتضيه من مصطلحات تقنية متخصصة ثم تغلبت على نكسة عصور الانحطاط بسجعه المتحزلق واستعادت مرونتها ونزعت عنها اثقال الزخارف المصطنعة وانفسح المجال لآلاف الالفاظ المعربة والدخيلة والعامية بعد شئ من الصقل لتحتل مكانها بين الالفاظ الأصلية وزال قدر كبير من التحرج في المصطلح النحوي والصرفي وحدث قدر كبير من التساهل في الصيغ والتراكيب فشاعت في العربية المكتوبة اساليب جديدة ( تمت بصلات الي العامية والي اللغات الأوربية ) واهم من هذا كله ان اللغة العربية اقتحمت ميادين الثقافة كلها من علوم وآداب وفنون ودارت المطابع في شرق الوطن وغربه تصدر آلافاً من صحف يومية ومجلات اسبوعية وشهرية وتضخمت المكتبة العربية الحديثة تأليفاً وترجمة تضخماً هائلا ثم استفادت اللغة العربية من تعميم التعليم ومن ثورة وسائل الاتصال الجماهيري فواصلت تطورها وتوالت عملية التأصيل اللغوي ليس فقط من خلال الترجمة والتعريب بل كذلك من خلال التجديد في الاشتقاق وفي التوليد الدلالي . فكلمة " سيارة " القرآنية مثلا قد انزاحت دلالتها من " جماعة المسافرين " الي وسيلة السفر الحديثة المعروفة وقل مثل ذلك في كلمة " مجتمع " و " دولة " و " قطار " و " هاتف " و " دراجة " ...ودخلتها عن طريق الترجمة والتعريب الآلاف من الالفاظ الجديدة وامتد التطور من الألفاظ الي التراكيب والبنية . وقد تسني لاختصاصي معاصر في اللغة العربية ( ابراهيم السامرائي : اللغة والحضارة ) ان يرصد ويحصي المئات من التراكيب والأساليب اللغوية المستجلبة والمستزرعة في تربة اللغة العربية ( تحت تأثير الترجمة والتي تتردد بايقاع لغة الصحافة العربية ) واذن فليس من المعقول ازاء كل هذا التطور في اللغة العربية ان يحاول كاتب الآن ان يكتب بلغة الاعراب في الجاهلية .. وهل يستطيع الناطق المعاصر بالعربية ان يفهم لغة الشعر الجاهلي بدون وساطة شارع أو قاموس ( اشكالات العقل العربي) فما الفائدة اذا كان قارئ التفسير التوحيدي يستعين بالقاموس لفهم التفسير !!
ملاحظة المؤلف حول افراط بعض المفسرين في بيان الحقائق العلمية حيثما ورد ذكرها في القرآن الكريم حيث اشار الي انه لم يتنزل الوحي ليعلم الناس اقدار الطبيعة اللازم قضاؤها ... الخ وهي ملاحظة صحيحة كان الاستاذ عباس محمود العقاد قد اشار اليها في كتابة " الانسان في القرآن) حيث يقول " فهل من الواجب علي المؤمن بالقرآن ان يلتمس فيه تأييدا لأصحاب " النظريات " والفروض في كل عصر يظهرون فيه ؟ نقول " كلا ولا ريب " لأنها قد تثبت كلها أو بعضها ، وقد يطرأ عليها النقض أو التعديل بين جيل وجيل ، ولكن القرآن يعمل عمل الدين الصالح اذا سمح للعقل ان يلتمس الحقيقة مع كل فرض من الفروض وترك له ان ينتهي بها الي نهاية شوطه مسؤولا عن نتيجة عمله وعما يفيد أولا يفيد من جهوده ومحاولاته فليس من عمل الدين ان يتعقب هذه الفروض والنظريات في معرض الجدل لتأييد تفسير أو خزلان تأويل وحسبه ان يملي للعقل في عمله ولا يصده سبيله فهذا هو الوفاق المطلوب بين العقيدة والبحث وبين الايمان والتفكير – فاذا أخطأ من يقحم القرآن في تأييد النظرية العلمية قبل ثبوتها فمثله في الخطأ من يقحم القرآن في تحريمها وهي بين الظن والرجحان وبين الأخذ والرد في انتظار البرهان الحاسم من بينات العقل أو مشاهدات العيان."
وقد أفرط بعض الباحثين أو المفسرين في محاولة التماس بعض النتائج لفروض افترضوها فقد عمد أحد هؤلاء الي تسخير الحاسبات في احصاء حروف القرآن وكلماته وخرج بنتيجة تقول: كلمة " الشهر " تكررت في القرآن 12 مرة أي بقدر شهور السنة : وفي الحقيقة فان كلمة الشهر بهذه الصيغة لم ترد سوي 6 مرات. كلمة " اليوم " تكررت 365 مرة أي بقدر عدد أيام السنة وفي الحقيقة وردت كلمة اليوم 480 مرة. قوله تعالي :" هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا" : أي ان نور القمر هو نور الشمس بعد انعكاسها . والحق ان انعكاس ضوء الشمس علي القمر لم يكن سرا علمياً بل كان حقيقة شائعة جدا قبل نزول القرآن الكريم بألف سنة علي الاقل . فمنذ القرن الخامس قبل الميلاد كان اناكساغورس قد اعلن " ان القمر ليس جسما وهاجاً بل كوكب يستمد نوره من الشمس".
قوله تعالي :" والأرض بعد ذلك دحاها" : تورد في معرض التدليل على ان القرآن قد سبق بتحديد شكل الأرض شبه الكروي مؤكدين على أن كلمة دحاها تعني جعلها كالدحية ( وهي بيضة النعام ) .. وهذا التفسير ليس له وجه في اللغة ... فكلمة دحاها تعني فقط بسطها ومدها ... وقد اطلق العرب اسم ( الادحية ) على المكان الذي تبيض فيه النعامة وليس بيضها . والدحية بكسر الدال هو رئيس الجند . والدحية بفتح الدال هي انثي القرد – كما ان كروية الأرض في عصر القرآن لم تكن نظرية معروفة فحسب بل كانت حقيقة علمية لا جدال فيها وكان الفلكيون في اثينا والاسكندرية قد قاسوا محيطها بفارق قدره مائتي ميل فقط عن القياس المعتمد الآن ( انظر الصادق الينهوم وول ديورانت ) ... ان القرآن الكريم يدعو الناس الي التدبر في آيات الله ويدعوهم الي العلم وان الوحي كما قال المؤلف الدكتور الترابي :" تنزل ليبين للناس ما هم فيه مختلفون من عقائد الحياة الغيبية التي لا يبلغهم الحق فيها الا وحيا ... " انه " بيان للناس " .
ولعل مما يلفت النظر ان المؤلف يزعم ان منهج تفسيره التوحيدي هو منهج لا فكاك منه لكل اجتهاد في تفسير القرآن مما يعني أنه التفسير الذي ينهج النهج الصحيح وحده من دون التفاسير الاخرى وان شرحه هو الأصح والاقرب الي روح القرآن الكريم أو الي ظاهره بيد ان التاكيد على احقية تفسير من التفاسير ، وحده دون غيره ، لا يعني محاولة استبعاد التفاسير الأخرى فحسب بل يعني ان هذا التفسير هو حقيقة الحقيقة وهو الذي نفذ الي اعماق القرآن الكريم واستخلص جوهره ( نقد الحقيقة ) .. ولكن ميزة القرآن الكريم الاتساع بل أن اعجازه يكمن في كونه يتسع معناه اتساعاً عظيماً فهو يحوي : الناسخ والمنسوخ والظاهر والباطن والمحكم والمتشابه والحقيقي والمجازي والمجمل والمفصل والعام والخاص والحسي والمثالي والشاهد والغائب والواحد والكثير والعقل والنقل والامر والنهي .. وفي اللغة العربية التي نزل بها القرآن دوما مجاز وفي المجاز تخيل وترميز ... وقد نص القرآن علي التاويل وهو يحتمل التأويل ولا تكتنه معانيه الا بالتأويل .. قال تعالي : " هو الذي أنزل اليك الكتاب فيه آيات محكمات هن ام الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله الا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا " .. ويمكن الرجوع الي رواية الطبري عن ابن عباس - رضي الله عنه - في تعريفه للمحكم والمتشابه .. فقد كان ابن عباس يقول عن نفسه :(أنا ممن يعلم تاويله ) ..
وتأويله يعني ان هناك ترجيح ومفاضلة وكل تفسير هو وجه من وجوهه ومستوي من مستويات فهمه .. واي محاولة لجعل تفسير واحد للقرآن هو التفسير الوحيد الصحيح فهي محاولة مخادعة لا تعني سوي احتكار المعرفة والاستبداد السياسي والارهاب الفكري .. واختلاف التفاسير جاء بسبب اعجاز القرآن حيث تتسع معانيه وتتعدد وجوه الدلالة فيه فهو لا يمكن استقصاء معانيه أو حصر دلالاته ولا يمكن لأحد ان يقبض او يفوز بجميع حقيقته ومن هنا جاء تباين التفاسير والتاويلات واختلاف الطرق والمذاهب وتعدد الفرق والمقالات..( نقد الحقيقة )... قال الزركشي في البرهان :" لا يستقصي معانيه فهم الخلق ولا يحيط بوصفه على الاطلاق ذو اللسان الطلق وهو بحر لا يدرك غوره واعيت بلاغته البلغاء واعجزت حكمته الحكماء وابكمت فصاحته الخطباء وعلوم القرآن لا ينحصر ومعانيه لا تستقصي وقد اكثر الناس فيه من الموضوعات ما بين مختصر ومبسوط وكلهم يقتصر على الفن الذي يغلب عليه – فالزّجّاج والواحدي في " البسيط " يغلب عليهما الغريب .. والثعلبي يغلب عليه القصص والزمخشري علم البيان والامام فخر الدين الرازي علم الكلام وما في معناه من العلوم العقلية ويقول الطبري :" تشتمل علوم القرآن" علي ثلاثة اشياء : التوحيد والاخبار والديانات ولهذا قال صلي الله عليه وسلم ( قل هو الله أحد ) تعدل ثلث القرآن.
وصحيح طبعاً ان الاسلام بما هو معتقد وشرع عامل جمع وتوحيد وانه دين توحيد كما قدم نفسه دائماً وكما عقله اهله وهو امر مافتئ علماء الملة يؤكدون عليه منذ البداية حتى اليوم اي منذ المتكلمين الاوائل حتى " رسالة التوحيد " لمحمد عبده. فالكل مجمعون على ان الاسلام يوحد ولا يفرق .. وهو يوحد بين البشر جميعاً اذ القرآن هو خطاب للانسان في كل زمان ومكان ولكن على الرغم من الدعوة الي التوحيد باسم الله الواحد الأحد الا ان القرآن الكريم كان وسيظل فضاءا واسعا للتاويلات المتعددة ولا يمكن لأي تفسير او تأويل ان يستنفذه او يغلقه بشكل نهائي وما يقوله المؤلف اذن هو اقرب الي خطاب الايدولوجيا فالقرآن الكريم هو شرع ومعتقد ودعوة الي الهداية والرشاد وينطوي على احكام وقواعد اي يتضمن معايير للتقويم والتصنيف فهو يصنف الاشياء والافعال بين حلال وحرام وحسن وسئ وطيب وخبيث كما يصنف الناس بين مسلم وغير مسلم ومؤمن وكافر وبر وفاجر وصالح وفاسد .. فلا يمكن اذن قولبة القرآن في نسق جامد او مذهب صارم ولا يمكن النظر اليه نظرة وحيدة الجانب (نقد الحقبقة ومفهوم النص ) .. وما فعله سيد قطب في " ظلاله " وما يفعله الترابي في تفسيره التوحيدي هو محاولة لقولبة القرآن وتجميده عند نظرة واحدة ومذهب جامد كان عند سيد قطب : " النظر من علو الي الجاهلية التي تموج في الأرض " وتربية الجماعة المسلمة لأداء دورها المقسوم وذلك بالبلاء ليصلب عودها .. وامتحان التصميم على معركة الحق بالمخاوف والشدائد .. ولابد من هذا البلاء ليؤدي المؤمن تكاليف العقيدة – وهو اتجاه واضح للانتقال من بيان تلك التربية عند الجماعة المسلمة في المدينة وهي مقبلة علي جهاد شاق – لتعميم ذلك لضمان تكوين جماعة المسلمين زمن سيد قطب على نفس الاسس ليخوض بهم معركته مع الجاهلية الجديدة .. " وهي نفس إسقاطات الترابي للمصطلحات السياسية الحديثة مثل " تطور الحملات المضادة " والمحاصرة والمقاطعة الاقتصادية ونقص اموال التجارة علي ابتلاءات الله للسائرين في سبيله منذ ما واجهه المسلمون الاوائل .. وذلك ايضاً حتى يسهل عليه اعداد جماعته لمواجهة ما يمكن ان تتعرض له – او يتعرض له مشروعه – من محاصرة ومقاطعة اقتصادية او نقص اموال التجارة ..!! وكل ذلك ليس سوي خطاب ايدولوجي بامتياز.
10- الفرق بين دلالة مصطلحي التفسير والتأويل هو كما يقول جلال الدين السيوطي والزركشي ان التفسير هو شرح معاني الكلمات المفردة والرجوع الي اقوال السلف وان التأويل هو استنباط دلالة التراكيب بما تتضمنه من حذف واضمار وتقديم وتأخير وكنابة واستعارة ومجاز .. الخ – ويدخل في باب مصطلح التاويل الذي راج منذ القرن الرابع الهجري " العاشر الميلادي " الجنوح عن المقاصد والدلالات الموضوعية في القرآن الكريم والدخول في اثبات افكار وفلسفات عديدة من خلال تحريف عمدي لدلالات ومعاني المفردات والتراكيب القرآنية – ولعل في عبارة الامام على كرم الله وجهه حين رفع الامويون المصاحف على اسنة الرماح طالبين الاحتكام للقرآن ، الأمر الذي أحدث انشقافاً في صفوف جيشه .. قال الامام علي :" بالامس حاربناهم على تنزيله واليوم نحاربهم على تأويله ". وهي عبارة تريد ان تلفت النظر الي ان هؤلاء القوم من بني أمية يحاولون اليوم التلاعب بالتأويل بعد ان كانوا في سنوات سابقة يرفضون التنزيل.
11- والمجتهد اياً كان مبلغ علمه وفهمه يصدر عن ظن فيما يراه او يستنبطه ولا يمكن له ان يبلغ اليقين ، اذ لا أحد يبرأ من الخطأ والوهم والنسيان ولا احد يبرأ من النقص والهوي والاختلاف. ولهذا كان بعض علماء الاسلام لا يجزمون ولا يقطعون بل ينهون مباحثهم أو مقالاتهم بعبارة " والله أعلم " – ولعل هذا ما يفسر لنا قول الشافعي – رحمه الله – " رأيي صواب – يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب".
( انظر الزركشي – السيوطي – الزمخشري – ابن كثير – محمد عبده – سيد قطب –عباس محمود العقاد – الصادق النيهوم – لطفي عبد البديع – علي حرب – نصر حامد ابو زيد ).
الدكتور عباس محمد حسن
<< Home