Wednesday, May 24, 2006

البصلـــــــة وقشرتهـــا:تعريف وإعادة تعريف المصطلحات2

البصلـــــــة وقشرتهـــا:تعريف وإعادة تعريف المصطلحات 2
حرية الاعتقاد وحق الاجتهاد
.. بين الدين والسياسةتقول مواثيق حقوق الإنسان إن حرية التفكير والاعتقاد تعتبر من الحقوق الأساسية التي لا يصح لجهة أن تنتزعها.. ويقول د. الترابي (وما دام كذلك هو الأصل خلقاً وشرعاً فالحرية مؤصلة في العقيدة وأحكام الشريعة الفرعية إنما تعبر عن ذلك الأصل العقدي الذي أسس عليه الدين... ومن ثم نجد في الشريعة السياسية إباحة للفرد المسلم أن يكسب كسبه بإجتهاد في الرأى... فمهما وضعت عليه ضوابط التعليم والتوجيه فليس لأحد - ما دام التفكر عبادة والاجتهاد فرعاً من التدين وإبداء الرأي نصيحة واجبة - ليس لأحد أن يسكت صوت المسلم الحر.. له بالطبع أن يجادله وله بالطبع أن يوصيه، ولكن ليس له أن يحول بين المسلم وحقه فى أن يسخر عقله بطلاقة والتزام لعبادة الله فيكسب بذلك كسباً يهديه بوجوه التعبير الحر للمجتمع مع سائر إخوانه المسلمين). د. حسن الترابى - محاضرة - اتحاد طلاب جامعة الخرطوم... لا يقف الدكتور عند هذا الحد بل حتى مسألة الإيمان والكفر هي مسألة إختيار... (ذلك لأن الحرية في أصل العقيدة الدينية هي قدر الإنسان الذي تميز به عن كل مخلوق سواه.. فمهما كانت الأشياء تسجد لله كرهاً... ومهما سجد كذلك العنصر المادى من جسم الإنسان... فإنه بإرادته حر مختار إن شاء عبد الله سبحانه وتعالى طوعاً وإن شاء كفر).. نفس المصدر.

وليس لمخلوق مهما عظمت مكانته أن يجبرنا حتى على قبول الدين الصحيح..(ذلك هو قدر الإنسان الطبيعي وهو كذلك حكمه الشرعى.. فلم يجعل الله لرسول أو حاكم عليه سبيلاً ليكرهه على قبول الدين الصحيح.. فكما لم يركب الله في فطرة الإنسان ما يلجئه إلجاءً الى الإيمان... ولم يركب فى عقله ما يضطره الى أن يستسلم لحقائق الإيمان.. لم يجعل كذلك للسلطة الإجتماعية ولاية إجبار تتحكم فى الإنسان كيف يتخذ موقفه من ربه).

وهنا لنا أن نتساءل: هل يصدق إنسان أن هذا الطرح المتقدم والإيمان (العميق والمؤسس) بحرية الاعتقاد جاء على لسان نفس الشخص الذى وافق على اغتيال مفكر فى قامة الأستاذ محمود محمد طه بتهمة الردة؟ أليس هو القائل (ليس للسلطة الإجتماعية ولاية إجبار تتحكم فى الإنسان كيف يتخذ موقفه من ربه)؟ إن اغتيال الأستاذ محمود كان بحق اغتيال للفكر السياسي واستغلال للدين.. ونحن نوافق ما جاء في بيان اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوداني.. يقول البيان: (إن حكم الإعدام على الفكر السياسي هو الثمرة المرة للتجارة بالدين واستخدام الإسلام واجهة لتسلط حكم الفرد.. وبعث لأكثر تاريخ صفحات الإسلام سواداً حيث يكفر الحاكم معارضيه السياسيين ويستبيح دماءهم.. ويتسابق علماء السوء وقضاة الضلالة في تدبيج الفتاوى والأحكام لتبرير استبداد الحاكم.. هذا ما يمارسه في سودان اليوم جعفر نميري والأخوان المسلمون وبطانة الشعوذة والدجل من أمثال أبو قرون والمهلاوي.. وفي كتاب: (الأخوان الجمهوريون- ماذا قال العالم عن الأستاذ محمود) نجد أن الترابي- وفي إجابته على جريدة (الهدى) بتاريخ 9 جمادي الآخرة 1405 هجرية يقول: (محمود محمد طه لا يعرفه أهل السودان سياسياً.. لأن دعوته دينية.. لأنه رجل له قضية.. وقضيته (ضد الدين ) الذى تعرفونه .( .. أي لجلجة وكذب صراح .. واسمعه وهو ينافق النميري قائلاً عنه في تطبيق (الشرعية الإسلامية) إنه (أكثر من جاد وأكثر توكلاً من كثير من الحكام) .. وبعد خلافهم في امور الدنيا صار يصفه ( بالطاغية ) . . والآن الترابي ينفي أي علاقة له مع قضية إغتيال الأستاذ محمود ( انظر حوار عووضة معه بصحيفة ( السوداني)... إنها المكيافيلية في أقبح صورها ومنطق الغاية تبرر الوسيلة .

دعونا نكمل مع الترابي حديثه عن الحرية ذلك لأنه لم يكتف حتى بذلك الحديث (المتقدم الجريء ) عن الحرية بل ويحثنا لنتمرد على الدولة الظالمة التى تريد سلبنا حريتنا كبشر ويتهم من يستكين لمثل هذه الدولة بالشرك.. يقول : (لابد لمن يريد إسلام نفسه لله أن يتحرر ازاء الدولة فى أطوار تفاعله معها... ولابد للدولة أو من يمثلها من سلطان مسلم أن يتيح له الحرية الدينية ليكون خالصاً لربه.. بل واجب الدولة ممثلة فى أولياء الأمر المكلفين المسؤولين أن يعينوا أخوانهم من الرعية على هذه الحرية بأن يكفوا يدهم عنهم ( لاحظ ما فعلته الإنقاذ بكل من خالفها الرأي دع عنك بمن أراد أن يعبر عن آرائه ذلك خاصة عندما كان الترابي على قمة المسؤولية في النظام !!) ... إلا أن يدفعوهم الى مزيد من الترقى فى مدارج التحرر من المجتمع والدولة.. وواجب الفرد كذلك أن يجاهد كل محاولة للسيطرة عليه من قبل الدولة........ والدولة التى تنتقص من حرية الإنسان وتحاول فرض سيطرتها على نفسه وروحه شاركت الله فى السيطرة عليه...وإذا رضي الفرد واستسلم لشرك المجتمع أو الدولة فقد أصبح مشركاً بالله سبحانه وتعالى ..الخ الخ) نفس المصدر.

وبعد كل هذا يأتى نفس الرجل ليخطط لانقلاب تصادر فيه حرية المسلم وغير المسلم ... ولا يعجز عن الإتيان بمبررات يصبغها بالصبغة الدينية يسوقها ليحلل ما سبق ويحرم عندما كان خارج السلطة.. فأين يكمن سبب هذا التناقض فى المواقف إن لم تكن المكيافيلية (وفقه الضرورة ) .. والآن يدعي الترابي وزمرته عدم علمهم بالتعذيب الذي مورس ضد كثيرين ويطلبون من الله المغفرة لمشاركتهم في الإنقلاب ودموع التماسيح تبلل اللحى؟.

ورغم اختلافنا مع الترابي نجد من هو أكثر تخلفاً عندما يقول: ( إنه لابد من إهانة غير المسلمين... غير أنها (الشريعة ) لا تهينه لمجرد الإهانة... فإن حكمة الآية فى ذلك حاضرة... فهى بإذلالها وإهانتها وتحقيرها لغير المسلم إنما تعجل بنقله من دافع للجزية الى مؤد للزكاة... لتنقله من معسكر غير المسلمين حيث الجزية إهانة الى معسكر المسلمين حيث الزكاة عبادة ( الدكتور الترابي وفساد نظرية تطوير الدين ) تأليف د. عبد الفتاح محجوب ص 40 بالله عليكم - وغض النظر عن التفسير الصحيح للآية - أهذا منطق يقنع أحداً.. كأنه يريدنا أن نقبل هذه الحجة الواهية : لكى يدخل الكفار دين الله أفواجاً علينا أن نذيقهم ألوان من الذل والإهانة وكلما أسرفنا فى تحقيرهم كلما كانت النتيجة أفضل وانتشر الإسلام بوتائر أسرع وعم كل نواحى المعمورة... أين كرامة الإنسان ؟ إن شخصاً هذه هي مكوناته ونوعيته أعتقد أن وجوده خارج حظيرة الإسلام أفضل بكثير من وجوده داخلها فمثله لن يكون إلا عبئاً علينا ولن يفيد لا الإسلام ولا المسلمين فى شىء...

وليت د. عبدالفتاح قال قوله هذا - على علاته - كنوع من الاجتهاد القابل للخطأ أو الصواب ولم يقله بوصفه الحق الذى يخرج من يخالفه من أمة محمد ... عندها كنا نقول فيه قول مسكويه فى رده على سؤال لأبى حيان التوحيدى عن قضية الإجتهاد وسبب إختلاف العلماء فى كتابه ( الهوامل والشوامل )... يقول مسكويه: (وليس ينبغى أن يتعجب الإنسان من الشىء الواحد أن يكون حلالاً بحسب نظر الشافعى وحراماً بحسب نظر مالك وأبى حنيفة... فإن الحلال والحرام فى الأحكام ليس يجري مجرى الضدين أو المتناقضين فينبغى للعاقل إذا نظر فى شىء من أحكام الشرع أن يجتهد فى النظر ثم يعمل حسب اجتهاده ذلك.... ولغيره أن يجتهد ويعمل بما يؤديه إليه إجتهاده وإن كان مخالفاً للأول واثقاً أن إجتهاده هو المطلوب منه ولا ضرر فى الخلاف) .. ويسبب مسكويه رأيه هذا بقوله: (.... أما ما سوغ للفقهاء أن يقولوا فى شىء واحد إنه حلال وحرام... فلأن ذلك الشىء ترك وإجتهاد الناس فيه .. فبعض الأحكام يتغير بحسب الزمان وبحسب العادة وعلى قدر مصالح الناس لأن الأحكام موضوعة على العدل الوضعى...وربما كانت اليوم فى شىء وغداً فى شىء آخر وكانت لزيد مصلحة ولعمرو مفسدة ).

البصلة وقشرتها ..تعريف وإعادة تعريف المصطلحات 1

البصلة وقشرتها ..تعريف وإعادة تعريف المصطلحات 1
(1) هل الدولة الدينية .. من الإسلام في شىء ؟
توضيح :
إستفزني - في المعني الإيجابي - تعليق الأستاذ الهاشمي علي تعقيبي على مقال له .. لذلك شعرت ربما يكون من الأفضل أن نعطي موضوع تعريف وإعادة تعريف المصطلحات وقتاً أكثر وبعض التفكير الجاد لذلك إخترت بعض المصطلحات - التي أعتقد أنها مثار خلاف - وسوف أحاول مناقشتها تباعاً ....
إن أوضح ما يوسم فكر سيد قطب - المرجع الثاني بعد حسن البنا من وجهة نظر حركة الأخوان المسلمين وتوابعها من جماعات الإسلام السياسي لمعرفة صحيح الإسلام - وهو تشدده ومناداته بالدولة الدينية .. وقد كان لهذا التيار أثره في إندلاع المعارك - ولوقت طويل - التي إحتدمت بين السلفيين وبعض دعاة العصرنة والتحديث .. وما كان لتلك المعارك أن تقوم أصلاً لو ساد الحوار العقلاني بدل تعصب الطرفين ونفي كل منهم للآخر ... السلفيون يرون الحاضر والمستقبل بعيون الماضي .. والمتعنتون من دعاة التحديث لا يرون في التراث إلا مجموعة من خرافات وأساطير القرون الوسطي أكسبها كر الأيام نوعاً من القدسية عند الجهلاء والعامة .. ونحن نعتقد إن كليهما قد إشتط.
فما هو نوع الدولة التي يريد سيد قطب والسلفيون بناءها ؟ وهل هي من الإسلام في شيء ؟ سيد قطب والسلفيون يريدون بناء دولة دينية قلباً وقالباً .. دولة يريد أن يسيطر فيها بعض الأفراد أو الجماعات على السلطتين الزمنية والدينية رغم إنكار أغلبية المسلمين للسلطة الدينية .. ويعرف الدكتور محمد عمارة - في أحدى إشراقاته القليلة - هذه السلطة في كتابه : (الإسلام والسلطة الدينية) - الناشر دار الثقافة الجديدة - بقوله : (إن السلطة الدينية تعني - في كلمات بسيطة ودقيقة - أن يدعي إنسان ما لنفسه صفة الحديث بإسم الله وحق الإنفراد بمعرفة رأي السماء وتفسيره وذلك فيما يتعلق بشئون الدين أو بأمور الدنيا .. وسواء في ذلك أن يكون هذا الإدعاء من قبل فرد يتولي منصباً دينياً أو منصباً سياسياً .. وسيان كذلك أصدرت هذه الفتوي من فرد أو من مؤسسة فكرية أو سياسية .. وفيما يتعلق بالفكر الإسلامي فإن كل مذاهبه وتياراته الفكرية - بإستثناء الشيعة - تنكر وجود السلطة الدينية وتنفي أن يكون من حق أي فرد أو هيئة إضفاء القدسية الإلهية على ما تصدر من أحكام وآراء ...الخ ) .. وينفي د. عمارة (العصمة حتى على الرسول في الجانب الدنيوي).. يقول :(ذلك أن مقتضي التسليم بوجود (السلطة الدينية ) لفرد أو هيئة يقتضي إضفاء القداسة و (العصمة) على ما تقدم من آراء .. وهذه العصمة ينفيها الإسلام عن البشر جميعاً .. ولا يعترف بها إلا للرسول - عليه الصلاة والسلام - وبالذات وفقط فيما يتعلق بالجانب (الديني) من دعوته .. لأنه في هذا الجانب الديني كان مبلغاً عن السماء ومؤدياً لما توحي به إليه .. ولم يكن مجتهداً ولا مبدعاً أو مبتدعاً فيه .. فهو في هذا الجانب ما كان ينطق عن الهوي إن هو إلا وحي يوحى.. وما على الرسول في هذا الجانب الديني إلا البلاغ - كما يقول القرآن الكريم .. أما الجانب الدنيوي الذي تعرض له الرسول - عليه الصلاة والسلام - في سبيل تبليغ رسالته الأساسية ومهمته الدينية فقد كان فيه بشراً مجتهداً عند غياب النص القرآني الصريح .. ومن ثم كانت إجتهاداته وآراؤه في هذا الجانب موضوعاً للشوري .. أي البحث والأخذ والعطاء والقبول والرفض والإضافة والتعديل.. لأن العصمة غير قائمة له في هذا الجانب من جوانب الممارسة والتفكير .. الخ الخ ) ص10 و11 .
ويصنف د. هاشم صالح في مقدمته لكتاب محمد أركون : ( الفكر الإسلامي - قراءة علمية ) من يقفون مع السلطة الدينية من السلفيين ضمن معتنقي (الارثودكسية الدينية) التي يصفها بالنتاج النهائي لما أسماه ميلتون روكيش ب(الصرامة العقلية) .. ويعرف روكيش الصرامة العقلية بأنها : (عدم قدرة الشخص علي تغيير جهازه الفكري أو العقلي عندما تتطلب الشروط الموضوعية ذلك .. وعدم القدرة علي إعادة ترتيب أو تركيب حقل ما تتواجد فيه عدة حلول لمشكلة واحدة وذلك بهدف حل هذه المشكلة بفاعلية أكبر ) .. وقد أجري العالم الفرنسي جان بيير ديكونشي أبحاثاً نظرية وتجريبية ليبرهن أن (الصرامة العقلية) لا بد وأن تقود الى أيدولوجية ما وصفها ب (العقلية الدوغمائية) .. ويعتبر ديكونشي :(أن العقلية الدوغمائية ترتكز أساساً على ثنائية ضدية حادة هى : نظام من الإيمان أو العقائد / ونظام من اللا إيمان واللا عقائد .. بكلمة أخرى أكثر وضوحاً فإن العقلية الدوغمائية ترتبط بشدة وبصرامة بمجموعة من المبادىء العقائدية وترفض بنفس الشدة والصرامة مجموعة أخرى وتعتبرها لاغية لا معنى لها .. ولذلك فهي تدخل في دائرة الممنوع التفكير فيه أو المستحيل التفكير به وتتراكم بمرور الزمن والأجيال على هيئة لا مفكر فيه .. وإذا إستخدمنا لغة روكيش قلنا أن نظام الإيمان/ واللا إيمان هذا يتحدد بواسطة ثلاث نقاط :
1- إنه عبارة عن تشكيلة معرفية مغلقة قليلاً أو كثيراً ومشكلة من العقائد واللاعقائد (أو القناعات واللاقناعات) الخاصة بالواقع .
2- إنه متمحور حول لعبة مركزية من القناعات (أو الإيمانات اليقينية) ذات الخصوصية الخاصة والأهمية المطلقة .
3- إنه يولد سلسلة من أشكال التسامح / واللا تسامح تجاه الآخر .)
ونحن نتفق مع محمد أركون في إستنتاجاته العديدة التي توصل اليها مستخدماً هذه الاطر النظرية في تحليله لمفهوم :( الأرثوذكسية في الإسلام) وكيفية نشوئها وتشكلها وآثارها عبر القرون .. ثم بين كيف أنها لا تزال تحول حتى الآن دون فتح الأضابير التاريخية وتجديد الفكر بشكل جذري في المجال العربي - الإسلامي .. إذ إننا نرى فيها أساساً جيداً لتفسير الممارسات العملية المنكفئة في تراثنا الإسلامي كنتيجة منطقية لتلك الصياغة القطعية وما تفرزه من حجاب حاجز يحول دون رؤية الأمور رؤية موضوعية حقيقية .. ونستطيع الإتيان بأمثلة عدة من واقع تاريخنا تبرهن على صحتها.. نقصد صحة الآثار السالبة للدغومائية (أو كما يسميها روكيش الأرثوذكسية الدينية أو طبعتها الإسلامية أي الأرثوذكسية في الإسلام كما يقول أركون) .. والدولة الدينية هي التطبيق العملي لنظرية (الأرثوذكسية في الإسلام) وعلي سبيل المثال يمكننا أن نستفيد مما أورده د. عمارة في كتابه سالف الذكر لنعطي إشارة لما تسببت فيه الدولة الدينية من ظلم وإساءة لصحيح الإسلام .. فتحت عنوان : (صفحة مظلمة في تاريخ المسلمين ) يورد ما يلي :
= فمعاوية بن أبي سفيان ( 20 ق الهجرة - 60 هجرية -680 م ) عندما يري في (مال الدولة) ومال الناس (مال الله) ويدعي لنفسه الحق والحرية في التصرف فيه بالمنع والمنح كيف يشاء بإعتباره (خليفة الله) فيقول :(الأرض لله .. وأنا خليفة الله .. فما أخذت فلي وماتركته للناس فبالفضل مني .) .. ومعاوية هنا يضفي علي سلطاته (سلطة دينية) يجعل بها تصرفات الحاكم قانون السماء وكلمة الخالق وإرادة الله .. ومن هنا كانت معارضة أبي ذر الغفاري له في هذه التسمية عندما قال له :(كلا إن هذا المال هو مال الناس فهو لهم وإرادتهم هي المرجع عند التصرف فيه ).
= وإنتقال السلطة السياسية من الأمويين الى العباسيين غيّر الأسرة الحاكمة ولكنه لم يغيّر من فلسفة الحكم ولا من تعلق الخلفاء الجدد بحبال (السلطة الدينية) .. فأبو جعفر المنصور يخطب الناس فيقول : (أيها الناس لقد أصبحنا لكم قادة .. وعنكم زادة .. نحكمكم بحق الله الذي أولانا .. وسلطانه الذي أعطانا .. وأنا سلطان الله في أرضه وحارسه في ماله .. جعلني عليه (قفلاً) .. إن شاء أن يفتحني لإعطائكم وإن شاء ان يقفلني ) .. فيجعل من تصرفاته المالية إرادة الله وقانون السماء حتي يبرر إطلاق يده وتفرده بالقرار ويبتعد بنفسه عن دائرة المساءلة والمحاسبة أمام الناس .. إنه يتعلق بالسلطة الدينية (الحكم بحق الله .. أي الحق الإلهي) .. ويريد أن يجعل من نفسه وكيلاً لله حتى يترك الناس حسابه لمن أوكله - أي الله - يوم القيامة .. وذلك هرباً من أن يحاسبه الناس لأن الإقرار (بمدنية السلطة) يعني أن الحاكم وكيل عن الأمة فحسابه حق أصيل من حقوقها الأصيلة !
= وكما قرأنا وسمعنا في تاريخ العصور المظلمة بأوربا عن تلك المؤسسات الكهنوتية التي إستندت الى السلطة الدينية في الحكم على عقائد نفر من المواطنين خاصة العلماء والفلاسفة والمفكرين المستنيرين .. وكيف ذهبت تلك المؤسسات الي إحراق بعض الكتب وتحريم بعض النظريات ومحاربة عدد من الإختراعات والإكتشافات العلمية والفكرية كما حدث في أوربا في العصور المظلمة عندما سادت فيها كلمة الذين زعموا لأنفسهم (سلطة دينية) .. فإن المجتمعات الإسلامية - ولها هي الأخرى عصورها المظلمة - قد شهدت هي الأخري شيئاً من ذلك.) ص16 و17و18
وفي هذا الإطار يمكن سرد الكثير من الوقائع التي يأباها الإنسان المتحضر دع عنك المسلم الذي يؤمن بعظمة الإنسان وأخوته .. وعلى سبيل المثال لا الحصر نورد :
= مرسوم الخليفة العباسي القادر الذي أسماه (الإعتقاد القادري) الذي حرم فيه فكر المعتزلة العقلاني وعده فسقاً وكفراً وزندقة وإلحاداً .. وفعل هذا المرسوم فعله في الإنتكاس بحركة الخلق والإبداع الفكري في حضارتنا الشىء الذي مهد لسيادة عصر الجمود والركاكة والتخلف تحت حكم المماليك والأتراك العثمانين - كما يقول د. محمد عمارة .
= أو جريمة الوالي الأموي خالد بن عبدالله القسري عندما ذبح مفكراً إسلامياً كبيراً هو الجعد بن درهم تنفيذاً لأوامر هشام بن عبد الملك (أمير المؤمنين) .. وقال قولته القبيحة :(أيها الناس إنصرفوا تقبل الله منكم .. فإني أريد أن أضحي اليوم بالجعد بن درهم ). ... وذبحه بجوار المنبر يوم عيد الأضحي بعد أن فرغ من خطبة العيد .. وقد إعتبر عامل أمير المؤمنين أن ذلك لا بد وأن يضعه الله في ميزان حسناته .
= ومالنا نذهب بعيداً .. ألم يغتال النميري رجالاً في قامة عبد الخالق محجوب والشفيع أحمد الشيخ وجوزيف قرنق ثم أعدم محمود محمد طه بإسم الإسلام وأمر الناس بمبايعته إماماً وبذلك جسّم كل مساوىء الدولة الدينية عندما جمع بين السلطتين الزمنية والدينية وطغيان ما يسميها أركون بالأرثوذكسية في الإسلام
www.alsudani.info

Justice

Justice must not only be done but must be seen to be done

حسين خوجلي والشيخ الترابي

حسين خوجلي والشيخ الترابي
الاخ حسين خوجلي مفتون بالشيخ الترابي وحق له ان يفتتن بالرجل كما أنه يحق لنا أن نقول إن حسين ذهب مذهباً غريبا في تأييده لفتوى الترابي حول زواج المسلمة من كتابي من باب الفرق الذي يراه كبيراً بين الاثنين ولا إعتراض لدينا على أن هناك فرقاً بين المسلم والكتابي ذلك أن هذا مما برر تحليل زواج المسلم من الكتابية لكن المشكلة تكمن في أن فتوى الشيخ الترابي تخرج على ما أجمعت عليه الأمة منذ عهد الرسول صلي الله عليه وسلم ثم إن كلمة الكفار التي وردت في آية (لا تُرجعوهنَّ إلى الكفار لاهُنَّ حلٌ لهم ولا هم يَحِلون لهن) بالرغم من أنها نزلت في مشركي مكة بعد الحديبية، الا أنها وردت كذلك في وصف أهل الكتاب (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالثُ ثلاثة).
إن إعتراضنا على الترابي إلى جانب محتوى فتواه غير المسبوقة أن الرجل يحتاج إلى أن يبين كيفية تعامله مع السنة النبوية بصورة شفافة لأني لا أفهم رفضه مثلاً لتسعٍ وعشرين حديثاً نبوياً حول عودة المسيح عسيى بن مريم التي وردت كذلك في كتب أهل الكتاب وأستقرت عليها الامة بينما يقبل حديث آحاد واحد لا لسببٍ إلا أنه يتسق مع منهجه وقناعاته الداعية إلى تحرير المرأة ومساواتها بالرجل فالترابي يقبل حديث أم ورقة ويفتي بجواز إمامة المرأة للرجال لانه يتفق مع هواه ورؤيته للنساء اللائي يعتقد أن (أعراف وتقاليد المجتمعات الاسلامية قد ظلمتهن منذ عهد الراشدين وكذلك آلى على نفسه أن يحررهن بمجموعة من الفتاوى التي يزايد بها على (الخواجات) والمجتمعات الغربية سعياً منه الى (تبرئة) الاسلام من تلك الفتاوى (الظالمة)! وإذا كان الترابي قد قال (إن عرفكم واضطهادكم للمرأة) هو الذي حرم إمامة المرأة للرجال فإني أريد ان اعرف ما هو العرف الذي جعل الرجل يخرج بفتاواه هذه ولذلك سألت في وقت سابق عما إذا كان الترابي سيكون نفس الرجل لو كان قد حصل على دراساته العليا في السعودية أو السودان؟! لا أريد أن أواصل فقد استفضت في مقالات ثلاث حول الامر لكني بحق وحقيقة أريد أن اعرف معايير التعامل مع الحديث الشريف عند الشيخ الترابي كما اني اريد أن أسال الاخ حسين تري ألو كان الشيخ احمد علي الامام أو الكاروري او الصادق المهدي قد أفتى بما أفتى به الترابي أكنت ستأخذ بكلامه وتدافع عنه مثلما فعلت مع الترابي؟!
من تحفظاتنا على الشيخ الترابي كذلك طريقة تعامله مع سابقيه من العلماء منذ العهد النبوي وإستخدامه تعابير (كلام فارغ) ونحوها فذلك ما لا يتسق مع أدب الاسلام فضلاً عن أنه ينطوي على غرور لا يليق بعالمٍ وزعيم ظل يقود الحركة الاسلامية منذ عشرات السنين. أعود لاقول إن تلك المرأة التي تزوجت كتابياً لا أظنها سمعت بفتوى الشيخ الترابي كما أنه لا يوجد من اعتمد فقه الترابي مذهباً جديداً يعتد به حتى يرد خبر »الانتباهة« بتلك الصيغة التي اعترض عليها حسين وحق له أن يعترض لكن ان يقول إن أهل الكتاب أخواننا في الدين فهذه (كثيرة) اما قصة الملة الابراهيمية فهي من تلبيس ابليس، ذلك ان اليهود يتعبرون اعدى اعداء الامة الى يوم القيامة( لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين اشركوا). لقد تعلمنا اخي حسين منذ ايام الشباب الباكر أن نعرف الرجال بالحق وليس الحق بالرجال إتباعاً لمقولة الامام علي كرم الله وجهه لأبنه يا بني اعرف الحق تعرف أهله

أزمة الصمغ العربي وشركته .. الاسعاف والاصلاح «1»

الدكتور منصور خالد رئيس مجلس ادارة شركة الصمغ العربي
1- مدخل
1- 1 عكفت خلال الشهرين الماضيين على الاطلاع على اغلب الوثائق المتاحة حول انتاج، وتصنيع، وتسويق، وتمويل عمليات، الصمغ العربي، كما سعيت في تلك الفترة ايضا للاستماع الى والتشاور مع، والاستهداء برأى، المسؤولين عن هذه المناشط والعاملين عليها، أو الذين باشروا المسؤولية عنها في الماضي، على ان اهم مشاوراتي كانت تلك التي دارت مع ممثلي المنتجين (كردفان، دارفور، اعالي النيل) ، تلك المشاورات رغم انها كانت مع ممثلي المنتجين في اكبر مناطق الانتاج، لم تك بالشمول الجغرافي الذي كنت اتمنى. وما استبان لي مما قرأت، او رسخ في ذهني عبر التشاور والاستماع، يقود الى نتيجة واحدة هي ان شركة الصمغ العربي في وضع لا يسر، وبحكم دورها المركزي في مجال انتاج وتسويق ذلك المنتج، فإن وضع القطاع بمجمله لا يبهج.
1- 2 الإقبال على معالجة وضع كهذا لابد أن يكون على مستويين:ـ المستوى الأول هو العمل الاسعافي لوقف الاستنزاف، ثم تصحيح المسار، واول ما ينبغي اسعافه هو المنتج والشجرة، فمن ضعف العقل بمكان ان يذهب سدى خير سهل المقتني، رفيع القيمة ساقه الله لنا. ـ المستوى الثاني هو السياسات متوسطة وبعيدة المدى، التي تضمن استدامة التصحيح، وتحول دون تكرار الاخطاء.
1- 3 ولكيلا يقفز احد الى استنتاج خاطئ، نقول ان المسؤولية عما لحق بقطاع الصمغ من تدهور انتاجا وتوزيعا وتنمية، مسؤولية تتشاركها جهات عديدة، ولا تقتصر فقط على شركة الامتياز، من بين تلك الجهات الدولة نفسها، اما عبر سياسات اتخذتها، او بسبب قصور عن او تلكؤ في تنفيذ اصلاحات تبنتها بهدف حماية القطاع، ومنها ايضا الممارسات التسويقية غير السوية التي لجأ اليها المصدرون المحليون الجدد، واثر تلك الممارسات على السوقين الداخلي والخارجي للصمغ، مثال ذلك التفاف بعضهم على الامتيازات حتى يتاح لهم تصدير الصمغ الخام الذي تستأثر الشركة بتصديره بدعوى تصنيع ليس هو بالتصنيع، او لضعف خبرة آخرين منهم بالاسواق الخارجية، او للجوء فئة ثالثة لخلط الاصماغ بصورة قد تضر بالسمعة الجيدة للسودان في السوق الخارجي وهذا الاخير، عمل لا اجدل له في القاموس وصفا غير الاستغشاش، وهو عمل غير صالح وطبعي ان هذا الحكم لا ينطبق على مصنعي الصمغ الذين ولجوا هذا الميدان بمهنية عالية، وحققوا بذلك قيمة مضافة فعلية للخام السوداني، ومن هؤلاء ليست هناك غير شركة واحدة.
1-4 الموضوع الرئيس لهذه المذكرة، هو البحث في أمر الصمغ العربي، وبخاصة شركة الامتياز التي تستحوذ على سوقه الخارجي، ولكن لا مدفع في مثل هذا البحث عن امرين:الاول هو ضرورة تناول دور الجهات الاخرى (غير الشركة) الخاص منها والعام، بالقدر الذي يلقي اضاءة كاشفة على اثر سياسات هذه الجهات، او ممارساتها، على قطاع الصمغ وليس فقط علي شركة الامتياز، فالخلل الذي نراه ليس وهنا طارئا، بل هو في بعض جوانبه اعوجاج قد يُفضى الى نتائج خطيرة ان لم يُقوَّم. الثاني هو حرصنا على تقديم البحث بفذلكة فيها من التفصيل ما قد يضجر العالمين بأمر الاصماغ، هذا امر نقدم عليه اولا، لان القضية تهم جمهورا اوسع، وثانيا لان المشتغلين بأمر الاصماغ كثيراً ما يحصرون القضية في حيز ضيق، كل في مجال تخصصه، بيد ان قضية الصمغ لا تقتصر علي شرائه وبيعه، او تنحصر في من هو اقدر على الشراء والبيع، وانما هي قضية تتصل اتصالا وثيقا بحماية البيئة الطبيعية، وبتقليص الفقر، وبمصير ملايين من البشر، وكل هذا يضفي عليها بعداً اجتماعياً وامنياً، وما لم تكن النظرة للموضوع نظرة تكاملية او يكون وعي كل واحد من المعنيين بها وعيا شاملا، فلا سبيل لعلاجها علاجاً ناجعاً.
1- 5 مع ذلك، وحتي لا يكون هنالك ذعر بعد هذه المقدمة، نقول ان مشكلة شركة الصمغ العربي، مثل مشكلات نظيراتها لا يعسر حلها ان كانت هناك رؤية هادية تستشرد بها السياسات وتبني عليها البرامج. وفي حالة الشركة فإن اى تحليل او تشريح او حلول لابد ان تأخذ ما يلي في الاعتبار:أ/ ما هو الغرض الذي انشئت من أجله الشركة وما هي الظروف التي استوجبت خلقها؟ ب/ ما الذي قامت به الشركة لتحقيق تلك الاغراض، اي ما هي السياسات التي اتبعتها، والوسائل التي ابتدعتها والآليات التي استخدمتها لتحقيق تلك الاغراض؟ج/ ما هو مدى الحرية التي تملكها الشركة وتتصرف في اطارها كشركة مساهمة عامة مسؤولة فقط لدى مساهميها، ولذلك ينبغي ألا تخضع لاى سلطان او توجيه من خارجها، الا بالقدر الذي يستوجبه القانون المنشئ لها او تفرضه السياسات العامة للدولة؟د/ هل انتفت الأسباب التي قادت في البدء لمنح الامتياز للشركة؟ فإن كان الرد ايجابا، فما هي الاجراءات المعدة او المقترحة من جانب الدولة للتعامل مع هذه الاسباب بعد الغاء الامتياز؟
2/ الصمغ العربي في الاقتصاد الوطني وفي البيئة الطبيعية
2 - 1 حتى مطلع العشرينيات من القرن الماضي (1922) كان الصمغ العربي هو السلعة النقدية الاولى في السودان، اى كان يسبق القطن في الصادرات، وهو اليوم السلعة النقدية الثالثة بعد القطن والحبوب الزيتية، ويمثل عائد الصمغ ما بين 15 ـ 18% من مجموع عائدات صادرات السودان غير النفطية، وقبل تسويق النفط كانت عوائد الصمغ تمثل واحدا من اهم المصادر التي تعتمد عليها الدولة لمقابلة احتياجاتها من النقد الاجنبي، وعلى خلاف كل السلع النقدية، بل كل المنتجات الزراعية الاخرى، الصمغ منتج غير مكلف، فلا هو في حاجة الى ري صناعي، او تخصيب كيماوي او رعاية، هو هبة الله لاهل الحزام المداري الذي ينتج فيه ويغطي قرابة العشرين بالمائة من مساحة القطر الكلية، ويشمل على وجه التحديد مناطق كردفان، دارفور، القضارف، النيل الازرق، اعالي النيل، هو هبة الله لهم اولا كمصدر رزق وثانيا كواق بيئي، اذ تمثل الاشجار المنتجة للصمغ (الهشاب والطلح) خط دفاع اول للزحف الصحراوي الذي يتهدد مناطق انتاجه، واغلب هذه المناطق مناطق رملية غير مستقرة، وتتراوح المعدلات السنوية للامطار فيها بين 280 ــ 450 ملم، وشجر الصمغ ايضا ينمو في السهول الطينية في وسط وشرق السودان، حيث لا يتجاوز المعدل السنوي للامطار 500 ملم، وفي تلك المناطق تتعرض التربة للتعرية المستمرة، الا ان اشجار الصمغ تعين على تخصيب الارض فيها، وكثيرا ما تتعرض تلك الارض للانهاك بسبب الرعي الجائر او التوسع الزراعي الافقي غير المنظم، مما يخل بالتوازن البيئي بين عناصر ثلاثة متكاملة هي الزراعة والغابي والرعوي.
2- 2 الصمغ سلعة محدودة الاستخدام في الداخل، رغم قيمته الغذائية والعلاجية. ولهذا ظل السوق الخارجي منذ زمن قديم هو الاكبر والاهم للاتجار فيه، ففي العهد الفرعوني مثلا كان الصمغ يستخدم في العقاقير الطبية وفي تحنيط الموميات، وكان الفراعنة يطلقون عليه اسم كامي، وفي المهدية كان الجانب الاكبر من الصمغ الذي يجمع في سوق ام درمان يوجه للخارج عبر بربر، حيث يباع القنطار منه بدولار واحد (دولار ماريا تريزا الذي كان يعرف باسم الدولار الجديد) او عبر سواكن حيث يباع بدولارين، فأهمية السوق الخارجي للصمغ تاريخية.
2- 3 وبالرغم من انتاجه في حزام يمتد من البحر الحمر الى السنغال، الا ان الجزء الاكبر منه ظل ينتج في السودان خاصة في كردفان (بالنسبة للهشاب) ودارفور والقضارف (بالنسبة للطلح). وقد برزت اعالي النيل مؤخرا (مناطق مابان، فشودة، ملوط، الرنك) كمنافس لهما، وستزداد اهميتها بحلول السلام في ربوعها، وفي العهود التي تلت اكتسب السودان في مجال الاصماغ الطبيعية ميزة تفضيلية على الدول الاخرى المنتجة له في السهل الافريقي: تشاد، نيجيريا، السنغال، وبقدر ادني الكاميرون والنيجر. ورغم ان الاسم العلمي للهشاب منسوب الى السنغال (acacia senegal) الا أن تلك الدولة اصبحت في ذيل الدول المنتجة له منذ زمان.
2- 4 تميز السودان في مجال انتاج الصمغ لم يكن فقط بسبب المساحة الشاسعة التي ينتج فيها، او بسبب النوعية الجيدة للخام السوداني وخبرات اهله الانتاجية، بل قبل كل ذلك لخصائصه الجوهرية، ففي السودان انواع كثيرة من اشجار السنط (acacia) تنمو نموا طبيعيا، أى انها اشجار غير مستزرعة ينضح منها الصمغ او يستحلب مثل الكاكموت والكرايا والترتر، الا انها لا تقارب الهشاب او الطلح من حيث الجودة والقبول لدى السوق العالمي، كما في العالم قرابة الألف نوع من اشجار السنط (acacia) التي يمكن استنضاح الصمغ منها، الا ان صمغها لا يقارب الصمغ العربي من ناحية الخصائص. ومن اهم هذه الاصماغ التي تنتج بكميات وفيرة صمغ الكاريا (Gum karya) واكثر ما ينتج في الهند (ولاية بيهار وهضاب الهملايا) وصمغ الغاتي (chatti Gum) وينتج ايضا في الهند وصمغ التراقاكانث (Gum tragacanth) وينتج في ايران وصمغ الكارو (karroo) وينتج في الجنوب الافريقي جنوب افريقيا، زامبيا، زمبابوي، كل هذه الاصماغ رغم فوائد بعضها الصناعية (صناعة الملابس، العقاقير، التماسك والالتحام بين المواد) الا انها تفتقد الخصائص التي اهلت الصمغ العربي ليكون اكثر مادة عضوية معروفة تصلح للاضافة الى غذاء الانسان وشرابه ودوائه، لانها لا تتفاعل كيميائيا مع العناصر الاخرى المكونة للغذاء او الشراب او الدواء، او فيزيائيا معها، لان الصمغ كالماء الطهور لا لون له ولا طعم ولا رائحة، ومن عجائب الاقدار ان اشجار الهشاب التي تنمو او تستزرع في مناطق اخرى من العالم لا تنتج ما تنتجه اشجار الصمغ السوداني، خاصة الكردفاني، من حيث الوفرة والجودة، مما يوحي ان لطبيعة الارض اثر في انتاج الصمغ.
2- 5 لهذا السبب ظل السودان يتصدر قائمة منتجي الاصماغ الطبيعية في العالم، بل يستحوذ على 80% من استهلاكه العالمي من ناحية الصمغ الخام، في ذات الوقت استحوذت الدول الاوروبية التي تستورد هذا الخام من السودان والدول الافريقية الاخرى، علي نسب عالية من الصمغ المصنع ذي القيمة المضافة، ففرنسا، مثلا تصدر 52% مما تستورده من الخام، والمانيا تصدر منه 30% وبريطانيا تصدر 29%. ولاسباب سنتطرق اليها لاحقا تدنت نسبة الصمغ السوداني الخام في السوق العالمي بأقل من النصف 42%، في حين ارتفعت مبيعات دول افريقية مثل تشاد من 2 الف طن في عام 1990م الى 13 الف طن في عام 1998م «تقرير الفاو» ورغم ما يتردد من ان جزءا غير يسير من الصمغ التشادي والاصماغ المصدرة من دول مجاورة في الشرق والشمال جاء اليها من السودان عن طريق التهريب، الا ان هناك اسبابا اخرى لتدني مبيعات السودان، لابد من التفطن فيها، بل ان ظاهرة التهريب نفسها هي نتيجة لاختلال في عمليات التسويق الداخلي.
2- 6 لسبب من كل هذا اتجهت الدولة منذ عشرينيات القرن الماضي لرعاية انتاج وتسويق الصمغ، ولاجل ذلك اقامت المزادات وحددت الاسعار الدنيا للسلعة، بالقدر الذي يضمن دائما دخلا مجزيا للمنتج، بدلا عن ذهاب جل الدخل لوسطاء التسويق. وثمة عوامل ثلاثة استهدفتها تلك الرعاية:ـ توفير عائد مضمون من النقد الاجنبي للدولة من سلعة قليلة التكلفة، ووضع سياسات التسويق والتمويل الرشيدة التي تكفل تحقيق ذلك الهدف. ـ حماية المنتج بتوفير عائد مادي مناسب لقاء انتاجه، اذ بدون ذلك العائد لن يكون هناك ادني حافز له لتكبد مشاق الانتاج او العناية بالشجرة، ناهيك عن الارتباط بها. ـ المحافظة على البيئة الطبيعية ومنع تدهورها بكل الوسائل، مثل مكافحة الحرائق، ايقاف القطع الجائر للاشجار، اعادة التعمير البيئي لحزام الصمغ العربي، الى جانب الدراسات العلمية التي تعين علي تحقيق تلك الغايات.
2- 7 وعقب الاستقلال تكونت في عام 1964م بمبادرة من السيد كامل شوقي مدير الغابات آنذاك، لجنة استشارية برئاسة وكيل وزارة التجارة وعضوية مدير الغابات ومحافظ بنك السودان، وممثلين لكبار مصدري الصمغ، لدراسة توقعات الانتاج واتجاهات سوق الصمغ العالمي، بهدف تحديد سعر أدني للشراء في المزادات المحلية وسعر ادني للتصدير، كما اقرت تلك الهيئة انشاء احتياطي اطلق عليه اسم مال التركيز يمول من عائد رسوم كانت تُفرض على كل قنطار يُشترى من الاسواق المحلية حماية للمنتج، خاصة بشراء ما تبقى له من محصول لم يشتر منه في السوق اي يبور في يده.
3/ ميلاد شركة الصمغ العربي
3 - 1 حتى نهاية الستينيات في القرن الماضي كانت تجارة الصمغ حرة، الا ان ممارستها انحصرت في بيوت تجارية محدودة، وعندما بلغت المنافسة بين هذه البيوتات، بل المضاربات بينها، حدا قاد الى تذبذبات خطيرة في الاسعار الخارجية كان لها انعكاسها على السعر الداخلي، اتجه المسيطرون على تلك التجارة (عثمان صالح، ابو العلا التجارية، شاكر وغلو، بيطار، ومن قبله بوكسول) للتفكير في خلق قناة واحدة للتسويق الخارجي، هذا الوعي بالمصلحة الذاتية (enlightened self -interest) يفتقده، فيما يتبدي لنا اغلب المصدرين الذين ولجوا ميدان التصدير بعد التحرير الجزئي لتصدير الصمغ العربي.تلك كانت هي الاسباب التي قادت الي انشاء شركة الصمغ العربي كشركة مساهمة عامة اكتمل تأسيسها في الثامن عشر من سبتمبر عام 1969م، وتم منحها امتياز صادرات الصمغ العربي الخام وفق قانون الامتياز لعام 1969م، بموجب قرار اصدره السيد ابل الير وزير التجارة يومذاك، ولم تك الدولة يومها مساهماً في الشركة، مما ينفي عن الشركة صفة المؤسسة العامة التي كثيرا ما تلصق بها خاصة في ما توحي به تقارير الوكالات الدولية المتخصصة (الفاو) او المؤسسات المالية (البنك الدولي). وجاءت مساهمة الدولة في تلك الشركة عرضا بعد التأميمات في مطلع سبعينيات القرن الماضي، حينما آلت اسهم بعض المساهمين اليها، وتلك الاسهم لا ترقي الى الثلث «28% من مجموع الاسهم العادية».
3 . 2
اهم ما في قرار منح الامتياز، الزام الشركة بتخصيص 20% من الارباح لما يسمى مال التنمية والتركيز، و 10% لما يسمى مال الاحتياطي، وبموجب شروط الامتياز حدد عقد تأسيس الشركة واجبات اساس لها، ولذلك ينبغي ان تكون تلك الواجبات في الذاكرة عند تقويم اداء الشركة، او الاتجاه الى نزع الامتياز عنها.. هذه الواجبات هي:أ/ الاتجار في الصمغ داخليا وخارجيا طبقا للمواصفات المطلوبة، وبالسعر والكيفية التي يحددها الوزير المختص ومجلس الادارة. والوزير المختص هنا هو وزير التجارة الخارجية، وسيظل هكذا ما لم يعدل القانون. ب/ انتاج وصناعة وتصدير الصمغ. ج/ انشاء مال للتنمية واستخدامه في الاغراض التي تؤدي بطريقة مباشرة او غير مباشرة لحماية وتقدم واستمرار تجارة الصمغ، وعلى رأسها حماية المنتج والبيئة الطبيعية للانتاج.
3 - 3 القراءة المتمعنة لهذه الاختصاصات، لاسيما الاختصاص الاخير، والادراك السليم للظروف التي استوجبت قيام الشركة، تفضيان الى نتيجة واحدة هي اننا لسنا امام شركة عادية يبتغي المساهمون فيها الكسب وتوسيع هوامش الربح، بل هي شركة تراضى المساهمون فيها الى جانب التجارة الربحية على تولي مسؤولية اجتماعية بسبب ما اسميناه الحس الواعي بالمصلحة الذاتية، فنجاح الشركة او فشلها اذن لابد ان يقاس بقدرتها على تحقيق الاهداف التي انشئت من اجلها. وعلى رأس تلك الاهداف:أ/ في الداخل: تنظيم التسويق الداخلي بهدف حماية المنتج بضمان سعر مجزٍ له لا يقل عن السعر القاعدي (hoor price) او سعر التركيز، وشراء كل ما ينتج وفي كل موسم في الوقت المناسب وبالتكلفة المناسبة. ب / في الخارج: الحفاظ على الوضع المتميز للصمغ السوداني في السوق العالمي، وتطوير ذلك الوضع عبر وسائل متعددة، منها الحفاظ على مخزون استراتيجي وقائي لا يقل عن انتاج عام، والرقابة على جودة المنتج. ج/ تطوير الانتاج برعاية البيئة الطبيعية والمجتمع الريفي حولها، وترقية البحث العلمي الذي يعين على ذلك. د/ تحقيق قيمة مضافة للسلعة المنتجة بالتصنيع، بالقدر وعلى الوجه الذي يتطلبه السوق.
3 -4 شركة الصمغ أفلحت الى حد كبير في تحقيق هذه الاهداف، خاصة في سنيِّها الاولي، فعلى مستوى التسويق الخارجي كان هناك اجماع من المستهلكين في الخارج على جودة المنتج السوداني من ناحية النظافة والنوعية وحسن الفرز والتغليف الانضباط في مواعيد الشحن، والالتزام بضوابط التصدير والمعاملات البنكية، فنيجيريا مثلا تصدر الهشاب الا ان قليلا مما تصدر يوازي الهشاب السوداني في جودته، وكثيرا ما تعمد الى خلط صمغها الهشاب بأصماغ اقل جودةً، أو لا تراعي ما يراعيه السودان في ضبط جودة ما يصدره، وقد ذاع بين مستوردي الصمغ اسما نوعين من الصمغ اصبحا رمزا ومعيارا للجودة هما (HPS) و (CAS) والاول يشير للصمغ (النقاوة) الذي يلتقط يدويا (Hand picked Sort) والثاني للصمغ المنظف عنبري اللون(Clcancd Ambcr Sort) اما على المستوى الداخلي فقد درجت الشركة على الاحتفاظ دوماً بمخزون استراتيجي. وانشأت مكاتب فرعية لها في مناطق الانتاج ومحطات لاستلام السلعة في الولايات المنتجة، ومخازن تسع ما يفوق الانتاج السنوي، واخيرا اسطول خاص للنقل. ولعل للأخير دواعيه في وقت كان المصدرون يعانون فيه من اختناقات النقل البري، بما في ذلك اختناقات السكك الحديدية، الا انه اليوم يمثل عبئا اضافيا لا مبرر له في بلد تتزايد فيه مؤسسات النقل البري ذات الكفاءة العالية

حول الدكتور الترابي ومحمود محمد طه

لكي لا ننسى
حول الدكتور الترابي ومحمود محمد طه
صلاح أحمد إبراهيم
أسمى النميري الأخوان المسلمين (أخوان الشياطين)، لم يحتج غير الشيخ عمر التلمساني مرشد الإخوان المسلمين بمصر وذلك في نهاية مذكراته بالشرق الأوسط، معاتباً النميري على وصفه ذاك عتاب المحبين، أليس النميري هو مطبّق الشرع الإسلامي في السودان، ومُظهر الدين الحق؟ أما (هم) أخوان الشياطين كما قال ـ فكأنما الأمر لا يعنيهم وأخذوا يقدمون عن ذلك الأعذار. تأمل بالله عليك الشاتم والمشتوم! الرئيس ـ صاحب البيعة الإسلاميةـ يتحالف مع من يراهم (أخوان الشياطين) دون تحرج أو استنكاف. وهم ـ حزب الدعوة الإسلامية وورثة الصحابة ـ هانئون بزواج المتعة هذا ـ ميكيافيلي مع ميكيافيلي آخر، أي إسلام هذا؟ إسلام التدليس، إسلام المتاجرة، إسلام المنفعة، إسلام آخر الزمان؟ فرح الإخوان المسلمين جذلين ـ كما أخبر المراسلون ـ وهم ينظرون إلى محمود محمد طه على المشنقة والحبل في عنقه، أين تحشم المسلم ووقاره في حضرة الموت، وهل كل نفس إلا ذائقة الموت؟ أما كان الأجدر بهم أن يتذكروا في موقف كهذا (عودة) و(سيد قطب) والحبل على عنقيهما، وما الحبل بوقف على أحد دون آخر؟ ثم متى كان الحبل بقاتل للإنسان إنْ قُتل الإنسان لموقف ولمبدأ؟ والموت لا يستوجب الجذل أو الشماتة، كفى به عبرة وعظة فرحوا وابتهجوا وشمتوا، وما دروا أنهم هم الذين كانوا على المشنقة حقاً لا محمود، عليه سلام. كنت وصفته في مجلة الدستور بأنه (المايوي من منازلهم، المايوي بالمجان) لسذاجته السياسية ـ على الأقل ـ في مساندة نظام بانت سوأته وانكشفت عورته، واتضح للغاشي والماشي فساده وما جرّ للبلاد من دمار وما بددّ من تراث الشعب. على أنّ محموداً قال كلمته الصادقة ووقف ثابتاً تحتها كالطود الأشم. ومات على الحبل ميتة نشتهيها. بسمته الهازئة، بهم وبموتهم، تقول: "يا أيتها النفس المطمئنة" ومآثر شعبنا التليدة تزغرد كيوم وقفتنا في كرري. مات محمود شجاعاً، بطلاً، قدوة، شهيداً، يُجسّد أروع مواريث شعبنا، يجسّد شعبنا، ويمثل ـ فرداً ـ أفضل ما فينا، اتفقنا معه أو اختلفنا، محمود في ذلك الموقف هو نحن، غير أنه هو الذي وقفه شامخاً. وستظل تلك الابتسامة الخالدة تقضّ وتمضّ مراقد الذين عجزوا عن مقارعته الحجة بالحجة، بالتي هي أحسن. فاستعانوا بالحبل وبالحطب، فلا نامت أعين الجبناء، سنظل نذكره جيلاً بعد جيل بعد جيل، بإكبار شديد، نفخر بأمثولته ونعتز، وحين نفرغ من مراجعة ما وقف من أجله وما مات في سبيله ليحيا من بعده، سيزداد أبناؤنا به فخراً واعتزازاً. قال الفيلسوف (جيوردانو برونو) مخاطباً محكمة التفتيش قبل أن تحرقه على الصليب بتهمة الهرطقة (الردة في المصطلح الكنسي) كلمة يرن صداها حتى اليوم "إن محاكمتي هذه ستسبب ذعراً شديداً لكم.. لا لي". هذا الذعر سيطارد من غسلوا أيديهم الملوثة المتراجفة بدماء محمود الزكية (قاضٍ في الجنة وقاضيان في النار). قالها من يعرف أمثالهم من القضاة حق المعرفة. قاضيان في النار. ومن هؤلاء القضاة الذين في النار، الحقوقي خريج السوربون، دارس العدالة الإنكليزية والعدالة الفرنسية، ناهيك عن عدالة الإسلام وسيرة السلف... الدكتور الترابي مرشد أخوان الشياطين ـ الأخوان المسلمين سابقاً ـ أو كما أسماهم صاحب بيعته وقدوته في السوء والفساد الرئيس القائد جعفر الخاشقجي. الدكتور الترابي، مسؤول قبل سواه، وبأكثر من سواه، عن دم رجل كل جريرته أنه جرؤ على التفكير والاجتهاد والقول، أصاب أم أخطأ، بمحاكمة تستنكف عن قِصَرها وتلفيقها العدالة الوضعية ناهيك من عدالة الإسلام، ولكن إذا عُرفَ السبب بطل العجب. ولكن باسم عدالة الإسلام وشرع الإسلام كذب الفَجَرة المنافقون، بها قُطعَ رأس الحسين بن علي وسُبّ آل البيت من المنابر، بها صُلب العائذ بالبيت الحرام، بها كفّر الحنابلة الأشاعرة ولاحقوهم بالنكال بها عُذّب ابن حنبل وأذيق الحنابلة النكال، بها سُجن ابن تيمية وأُبطلت فتاواه وضُربَ وأُهين وأحرقت كتبه، عدالة ناصبة كاذبة ينازع بها طلاب السلطة سلطان الله، يخيفون بها العباد ويشيعون بالفساد، ويلطخون بالعار اسم الإسلام والإسلام بريء مما يدّعون، لأن إسلامهم المزعوم مجرد (عِدة شغل). والآن إلى مرشد أخوان الشياطين ما أسماهم فرعون ذو الأوتاد، جعفر الخاشقجي. الترابي تابع في الضلال لجعفر، وجعفر تابع للخاشقجي، والخاشقجي تابع لما يعلم الجميع في الشرق والغرب، تُفّو، تُفُو على التابع والمتبوع ولما اتّبعه من أجله... حين تقع عين الدكتور الترابي على ولد من أولاده يذكر جدين لذلك الولد من جهتي الأم، الجد الأول ـ من أمه ـ محمد أحمد المهدي ـ لقد أنكر مهدية الرجل قضاة وفقهاء من أمثال الترابي، وقضاة محمود محمد طه، وأعضاء مجلس المساجد العالمي بلندن، الذي طالب بقتل محمود، أقرّ أولئك باسم الشريعة تكفير المهدي وحربه وقتاله، فماذا كان رد الإمام المهدي لمن حكموا عليه بالمروق من شرع الله وأباحوا قتله (وشرع الله في نظر فقهاء السلطان هو شرع السلطان)... أسماهم بلا تردد (علماء السوء). فقهاؤك يا ترابي، وأنت على رأسهم كما قال الإمام المهدي: علماء السوء. والجد الآخر من جهة الأب الذي هو الدكتور الترابي نفسه، هو حمد الترابي، يقول ود ضيف الله في الطبقات " ثم لما وصل مكة أيام الحج قال أنا المهدي، فضربوه هو وحيرانه، قالت الحاجة ـ يعني جدة الدكتور الترابي الكبرى ـ ساقونا وحبسونا.. فأرسل ميرفاً حواره وقال أمشي في سنار وقل المهدي ظهر، فأمر الملك بادي أبو ذقن بقتله وجرّه". وقال ود ضيف الله عنه "تكلّم بالمغيبات، وبما كان في العالم وبما سيكون".... بما سيكون؟!!! جدّا أولادك يا دكتور الترابي من الجهتين كلاهما قال بأنه المهدي.. أفتقتل محموداً وما قالها: فالسودان لا تُقتل فيه الروح التي حرم الله كما تُقتل البهيمة... لست عليهم بمسيطر. ولكن ألم يشيعوا عن الثائر (ود حبوبة) بأنه قال إنه نبي الله عيسى لأنه أبى على شعبه ودينه الضيم لكي يبرروا قتله. هكذا علماء السوء، فقهاء السلطان الغاشم، بطانة الضلال. وأنت منهم يا مرشد أخوان الشياطين، قالها مولاك جعفر الخاشقجي لا أنا، جعفر الخاشقجي. ولكن حقّ لنا أن نتساءل من أين وجد النميري هذه الجرأة ليهين حلفاءه حَمَلة الأسياخ، دون أن يرفعوا في وجهه أسياخهم، ودون الاحتجاج إلا ما كان من الشيخ عمر التلمساني في الشرق الأوسط، دون الاحتجاج ودون بَغِم! لأن النميري ـ كما هي عادته وهوايته ـ يملك تحت يده ما يخزيهم ويكسر أمامه نظراتهم، من ذلك ما أفشاه وزير من وزرائه. في اجتماع للوزراء لام النميري الوزراء الذين ينتقدون في مجالسهم الخاصة النظام وكأنهم ليسوا منه، وطالب الجميع بالتضامن المطلق، وافقه الجميع كعادتهم، انفضّ الاجتماع. في المكتب الخاص المجاور، دعا النميري إليه الترابي في حضرة آخرين ومنهم من حكى الواقعة. قال له: كيف تجتمع بالأخوان المسلمين بالجامعة وتنتقد لهم السلطة وتقول بأنك تسايرها حتى تتغلغل فيها ثم تنقضّ عليها؟ نفى الترابي حدوث ذلك نفياً جازماً. سأله النميري: أتقسم على اسم الله؟ مد الترابي يده لمصحف أمام النميري. قال له النميري: بل أقسم على المصحف الذي في جيبك. أخرج الترابي المصحف وأقسم على اسم الله. انتهت المقابلة بنكتة وضحكة ثم قال النميري للترابي: طيب أمش يا ترابي. انصرف المرشد العام. حينئذ وضع النميري شريط (كاسيت) على آلة بالقرب منه وأدار الشريط، كان تسجيلاً بالكامل لما دار في الاجتماع الذي أقسم الترابي ويده على المصحف أنه لم يكن. قال النميري باحتقار شديد: انظروا هذا. الذي أقسم يميناً مغلّظة أنه لم يفعل ذلك، أي مسلم هذا الأخ المسلم، مرشد الأخوان المسلمين. انظروا إليه، قالها باحتقار شديد وكفى من يحتقره حتى النميري هواناً ولؤماً ووضاعة، مَنْ مرشد مَنْ؟ النميري أم الترابي؟ وأخذ يجمع التسجيلات بالصوت والصورة، مجموعة كاملة رهيبة، حتى وصل به الاطمئنان لكي يقول عن الأخوان المسلمين ـ بناءً عليه ـ أنهم (أخوان الشياطين) وهم يتلمسون لهذا الوصف كل مخرج، فقادتهم يعلمون علم اليقين أنه قادر على أن يبرهن بالصوت والصورة والمستندات والمستمسكات على أنهم كما قال ولم يحتجوا عليه. ولكن ما لم يقله هو، كيف أباح لنفسه هو أن يكون قريناً لمن يراهم (أخوان الشياطين) لو لم يكن أخاً لهم بالرضاع. ولو لم يكن الشيطان نفسه، بئس الشاتم والمشتوم كلاهما أخ للشيطان جمعهما حلف قذر يا منافقون؟ يا سماسرة الدين والضلال، يا مجوعي الشعب؟ يا قَتَلة النفوس! على الأقل، محمود لم يقتل نفساً ولا نادى بقتل. عاش طوال حياته مفكراً، زاهداً، مناضلاً، متعففاً، مهذباً، يُخطئ ويُصيب، ثم مات كريماً، أبياً، دفاعاً عن الكرامة والحق، له ولغيره

مأزق الأفندي-المقال في جزئيه

مأزق الأفندي -المقال في جزئيه
(تعقيب على مقال الأفندي عن الشيخ الترابي وأزمة الحركة الإسلامية المعاصرة)
د. عمر القراي
في صحيفة «الصحافة» بتاريخ 25 -4-2006 ، كتب د. عبد الوهاب الافندي ، مقالاً على ضوء الضجة الاخيرة، التي اثيرت حول آراء د. الترابي .. ولقد انشغل د. الافندي، عن جوهر القضية، الذي ينبغي ان يركز عليه كل مثقف حر، مهتم بحرية الفكر، وبكرامة الانسان.. فبدلاً من مواجهة اتجاهات «التكفير» ، وادانة مصادرة الحق في التعبير، من حيث المبدأ، على انها اعتداء سافر على الحقوق الاساسية ، ثم هي مفارقة كبيرة ، لاصول الاسلام ، المتمثلة في قوله تعالى «وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر»، ترك د. الافندي كل هذا جانباً ، ليحدثنا عن الكتاب الذي شارك في اعداده «لفيف من الاكاديميين والمفكرين من مختلف انحاء العالم»، والذي كتب فيه فصلاً عن آراء الترابي .. لقد كان حرياً بدكتور الافندي، ان يدين الحملة الجائرة التي كفرت الترابي، وطالبته بالتراجع عن افكاره، قبل ان يحدثنا عن آرائه، و يسعى لتبريرها، او رفضها. أقول هذا، دون ان اغفل عن ان د. الترابي ، هو الذي اسس للاعتداء على حرية الفكر ، وحرية التعبير في هذا البلد .. وذلك منذ اثارته لقضية حل الحزب الشيوعي السوداني65م، ثم اخراجه للمسيرة المليونية ، تأييداً لقوانين سبتمبر 83م التي قطعت ايادي الفقراء ، بينما كانت حكومة نميري تعلن المجاعة !! ثم ضلوعه في مؤامرة اغتيال الاستاذ محمود محمد طه ، وتصريحه اكثر من مرة ، بان الاستاذ الشهيد يستحق القتل ، بسبب آرائه ، التي اعتبرها الترابي ردّة !! والترابي هو الذي كان قد افتى بان الردِّة الفكرية لا غبار عليها ، ثم هو الذي اعاد مادة الردة في القانون الجنائي !! وهو الذي كان عرَّاب حكومة الانقاذ ، الذي ساقها الى تبني الشعارات الاسلامية، التي سجنت بها خصومها في بيوت الاشباح ، وعذبتهم بسبب آرائهم ، ثم رفعت برعاية الترابي ، وتوجيهه ، شعار الجهاد، وقتلت اخواننا في جنوب السودان ، وفي جبال النوبة بنفس دعاوي التكفير .. ولقد بدل الترابي ، وغيَّر كثيراً في مواقفه وافكاره ، وما حديثه اليوم - حين ردت اليه بضاعته - عن حقه في حرية التعبير، الا ضرب من عدم الصدق. والاشياخ الذين هرعوا لتكفير الترابي، ليسوا افضل حالاً منه !! فقد كفروه لاباحته زواج المسلمة من الكتابي ، ورفضه لنزول المسيح ، لانه بذلك خالف نصوصاً من القرآن والحديث.. ولكنهم هم ايضاً ، كاعضاء في مجمع الفقه ، التابع لرئاسة الجمهورية ، قبلوا ان يكون نائب رئيس الجمهورية ، مسيحياً ، وان يكونوا تابعين له ، وموالين له ، فخالفوا بذلك قوله تعالى « يا ايها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى اولياء بعضهم اولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين»!! ومهما يكن من امر الترابي وآرائه ، فإن د. الافندي لم يكن محدداً تجاهها، فتارة يبدو مدافعاً عنها ، وتارة يبدو ناقداً لها ، وبين هذه وتلك ، يضطرب ، ويتردد، ويحاول شرح معانٍ دينية عميقة ، بلا علم ، وبنفس منهج الجرأة الزائفة، الذي عابه علي الترابي .
حديث الذبابة وحديث النخل: تعرض د. الافندي الى حديث الذبابة ، وتعليق الترابي المشهور عليه ، فقال «وتميز موقف الترابي بأنه اتخذ موقفاً جذرياً بدأ برفض المنهج التقليدي وهو التشكيك في صحة الحديث وبالتالي التشكيك في اعتقاد سائد بين المسلمين السنة بصحة كل ما ورد في صحيحي البخاري ومسلم .... وحجة الترابي هي ان البخاري بشر غير معصوم ولا بد انه اخطأ فيما اسناد بعض ما اورده. ولكن حتى لو كان البخاري على حق في روايته فإن من المحتمل ان يكون الصحابي الذي نسب اليه الحديث قد أخطأ فيما نقل او لم يفهمه كما يجب، والصحابة ايضاً غير معصومين بل ان بعضهم قد سجل عليه كذب وتزوير، وحتى لو تجاوزنا عن هذا واثبتنا ان السند صحيح وان الصحابي المذكور قد نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم بدقة وموثوقية، فإنه يحق لنا ان نرفض المقولة النبوية اذا كانت تتعلق بشأن دنيوي. فعصمة الرسول صلى الله عليه وسلم تتعلق بالتبليغ في امر الدين وهو القائل «انتم اعلم بشؤون دنياكم» كما ورد في الحديث الذي نصح فيه المسلمين بعدم تلقيح النخل، وهي نصيحة اتضح انها لم تكن صائبة» هذا ما قاله د. الأفندي يدفع به عن آراء د. الترابي، ويعلن صراحة، موافقته عليها !! فلماذا الحديث عن التحري عن صحة الحديث ، وعن صدق الصحابة ، اذا كنا ببساطة «يحق لنا ان نرفض المقولة النبوية اذا كانت تتعلق بشأن دنيوي» كما قرر د. الافندي؟! ان الدقة في التحقق والتحري، سببها انه يجب علينا ، بمقتضى الايمان ، ان نقبل بتسليم ، ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم .. قال تعالى في ذلك «فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك في ما شجر بينهم ثم لا يجدوا في انفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً» وما يشجر بيننا ، انما يتعلق بأمور الدنيا ، وليس امور الآخرة.. فالترابي قد خالف نص هذه الآية ومعناها ، وهو لم يقل بتضعيف الحديث، كما حاول د. الافندي ان يوهم القراء ، وانما قال «هذا امر طبي آخذ فيه برأي الطبيب الكافر ولا آخذ رأي النبي ولا اجد في ذلك حرجاً ولا اسأل عنه عالم دين» «راجع كتاب الصارم المسلول لأحمد مالك» .. فالترابي يرفض رأي النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا يجد في نفسه حرجاً ، بينما انه لو قبله ، ووجد في نفسه حرجاً ، لاخرجه ذلك من الايمان، حسب ما نصت الآية !! والترابي في رفضه لحديث الذباب قد بنى على حديث النخل ، والافندي تابع له في ذلك .. فقد ورد في الحديث «ان النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة ، وجد الناس يلقحون النخل ، فقال: لو لم تلقحوه لأثمر . فلم يلقحوه ولم يثمر. فقالوا : يا رسول الله لم نلقحه ، ولم يثمر قال: اذهبوا فأنتم اعلم بشؤون دنياكم» .. فحين لم ينظر الترابي والافندي بعمق ، ظنوا ان النبي صلى الله عليه وسلم قد أخطأ ، بل ان الافندي قال في جرأة ، لا تدانيها غفلة ، الا جرأة الترابي «كما ورد في الحديث ، الذي نصح فيه المسلمين بعدم تلقيح النخل ، وهي نصيحة اتضح انها لم تكن صائبة» !! والحق ان الافندي هو الذي أخطأ ، ولما لم يكن هنالك ادب ديني مع النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا ورع يعصمه عن التورط في التهلكة ، فإنه لم يتردد في قول ما قال .. وخطأ د. الافندي يجئ من عدة وجوه:
1- افتراضه ان النبي صلى الله عليه وسلم ، الذي عاش كل حياته ، في جزيرة العرب ، لا يعرف ان النخل يلقح ، مع ان هذه المعرفة ، متوفرة لأي اعرابي ، لمجرد معيشته هناك.
2- أسوأ من ذلك !! افتراضه ان النبي صلى الله عليه وسلم، يفتي في ما لا يعلم ، وهو بذلك يسلك في مستوى، دون ما طلب الله من المؤمنين ، في قوله تعالى «قل انما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم والبغي بغير الحق وان تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً وان تقولوا على الله ما لا تعلمون» .. فهو عليه السلام ، لا يقول بما لا يعلم ، ولا يتحدث فيما لا يعنيه ، ولقد كان يسئل، فيصمت ، او يقول لا اعلم ، انتظاراً للوحي.
3- لو كان ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم ، في امر تلقيح النخل خطأ، لصححه الوحي ، وهذا مقتضى العصمة، فالمعصوم هو الذي اذا اخطأ صححه الوحي. ان الفهم الصحيح ، هو ان النخل لا يثمر بالتلقيح ، وانما يثمر باذن الله، وهذه الحقيقة هي مقتضى التوحيد .. ولقد قصد النبي الكريم ، ان يدعو الاصحاب ، الى مستوى رفيع من التوكل ، حين دعاهم لاسقاط الاسباب ، اعتماداً على الله ، وتوكلاً عليه ، فقال «لو لم تلقحوه لاثمر» ، لان الله في الحقيقة ، هو سبب الاثمار وليس التلقيح .. ولكن الاصحاب ، لم يحققوا هذا المستوى من التوكل ، فلم يثمر النخل .. ولهذا دعاهم مرة اخرى، الى الاسباب، حين قال «اذهبوا انتم اعلم بشؤون دنياكم» !! أي ان دنياكم دنيا اسباب ، ولهذا اذا لم تؤدوا الاسباب، سوف لن تجدوا نتائج، الا اذا ارتفعتم من الاسباب ، الى رب الاسباب.
أما مريم ابنة عمران ، فإنها تركت الاسباب، ولم تلتفت اليها ، فتحقق لها ما تريد .. قال تعالى «كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله ان الله يرزق من يشاء بغير حساب» فهي لم تترك المحراب لتكسب رزقها ، فارسل الله لها رزقها في محرابها ، بلا حاجة لسبب!! ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ، يعلم ان الاصحاب دون هذا المستوى الرفيع، من التحقيق ، ولكنه كان يشدهم اليه ، حتى يشمروا نحوه، ويحققوا منه اقداراً متفاوتة .. فقد ورد في الحديث انه صلى الله عليه وسلم قال «لا عدوى ولا طيرة» فقال اعرابي: يا رسول الله انا نرى البعير الاجرب يلحق بالقطيع فيحيل ما فيه من الابل جرباً. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «فمن اجرب اولها ؟!» فسكت الاعرابي . ففي الشريعة هناك امراض معدية، وواجب الاصحاء ان يجتهدوا في الابتعاد عن المرضى، ولكن في الحقيقة ان المرض بيد الله ، وانه ليس هناك عدوى!!
حديث الافندي عن الفكرة الجمهورية يفتقر للصدق:
يقول د. الافندي «ولعل الحل الجذري الابرز هو ذلك الذي لجأ اليه المفكر الراحل محمود محمد طه وحركته الجمهورية حين قرر نسخ كل النصوص القرآنية المدنية ومعها السنة وما تفرع عنها من موروث اسلامي، والبدء من جديد في استحداث تشريع اسلامي من نقطة الصفر. ولكن الحل الجمهوري واجه اشكالين رئيسيين: الاول هو انه حين كنس التشريع الاسلامي الموروث بأكمله بجرة قلم، احل محله رؤية تتطابق مائة بالمئة مع المنظور الغربي الحديث في الحريات وحقوق الانسان. والثاني أن مثل هذا الحل الجذري يحتاج الى دعوى بسند سماوي جديد وتصريح الهي مباشر من الهام او نحوه. أي بمعنى آخر ان الامر يحتاج الى وحي جديد ودين جديد وهو تحديداً ما تضمنته الدعوى الجمهورية، وهو امر يجعلها مشبوهة اكثر، خاصة عند اهل الحداثة الذين تستهويهم دعواها الاولى، ولكن يصعب عليهم تقبل محتواها الصوفي الميتافيزيقي».
ولو كان د. الافندي باحثاً جاداً ، او مفكراً مسؤولاً ، لما خاض في امر الفكر الجمهوري ، بهذه السطحية ، وهذه العفوية. ذلك لأن الفكرة مرصودة في كتبها ، ومسجلة على اشرطة ، وقد وضعت في صفحات الكترونية ، يطلع عليها من شاء ، من جميع انحاء العالم .. وكل من قرأ ولو كتابا واحدا للفكرة الجمهورية ، يعلم ان الاستاذ محمود، لم يقل مطلقاً بنسخ كل النصوص المدنية، ولم يقل بنسخ السنة، بل دعا الى بعث السنة .. وهو على التحقيق، لم يقل بـ «كنس التشريع الإسلامي الموروث بأكمله بجرة قلم» !! فهل يعارض الأفندي الفكرة، بأن ينسب اليها ما لم تقله، ام ان ما يليق به كباحث هو ان يرجع اليها في مظانها، ويناقشها فيما جاء في الكتب؟
ولما كان د. الافندي لا يعتمد على الفكرة الجمهورية، ولا يورد ما يصدق دعواه من كتبها، فإن ما قرر انه اشكالية تواجهها ، لا يقوم الا في وهمه فقط .. فهو قد قال ان اشكالية الفكرة الجمهورية الاولى ، انها قدمت رؤية تتطابق مئة بالمئة ، مع المنظور الغربي الحديث ، في الحريات وحقوق الانسان .. وهذا غير صحيح !! فالفهم الغربي الحديث ، يوافق اصول القرآن ، التي دعت اليها الفكرة الجمهورية، اجمالاً.. ولكن هنالك خلاف جذري ، بين الفكرة وبين الفكر الغربي الحديث ، لا يتسع المجال لتفصيله. ولكن فحواه هو ان الفكرة الجمهورية ، حين دعت للحرية ، والديمقراطية ، طرحت منهاجاً اخلاقياً تربوياً، هو سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، لتحقيق هذه القيم ، بينما الفكر الغربي لا يملك منهاجا ، ولا يهتم بالتربية الاخلاقية.
والاشكالية الثانية ، حسب زعم د. الافندي ، ان الحل الجذري يحتاج الى وحي جديد، وهو ما تضمنته الفكرة الجمهورية، وجعلها مشبوهة !! فأين ذكرت الفكرة الجمهورية ، انها دين جديد ، وانها تحتاج الى وحي جديد ؟! ان ما زعمه د. الافندي ، عار تماماً من الصحة ، ومنذور الحظ من الصدق و الامانة العلمية ، ثم هو يتناقض تماماً ، مع ما ذكرت الفكرة في كتبها .. فهل كان د. الافندي يعرف ذلك ، ثم ادعى ما ادعى ليخفف وطء مفارقات الترابي ؟! أم ان د. الافندي لا يعرف شيئاً ، ويعتقد حقاً وصدقاً ، ان الفكرة الجمهورية تدعو الى دين جديد ؟! وهذا ان صح ، فإنه جهل فريد من نوعه ، لا يجاريه فيه ، غير وعاظ التكفير ، امثال عبد الحي يوسف ، الذي حين اورد نصوصاً من كتب الاستاذ ، اضطر لبترها ، تزويراً ، وتحريفاً ، وكذباً ، حتى يستطيع ان يخلص الى تكفير الاستاذ محمود والجمهوريين
بيننا وبين الترابي:
يقول الافندي «الشيخ الترابي اتهم من قبل خصومة بانه يقارب في دعواه الاصلاحية الشطحات الجمهورية، ولكن الترابي لم يدع وحياً جديداً وانما استصحب دعوى الحداثة الاكبر «ودعوى قدامى فلاسفة المسلمين حتى ابن رشد» من ان العقل الانساني هو في حد ذاته مصدر سلطة قد تعلو احيانا على اية سلطة أخرى دون سلطة الوحي ...». والفكرة الجمهورية ، كما ذكرنا ، لم تدع وحياً جديداً، وانما فهمت الوحي القديم ، فهماً جديداً، يقوم على اصول القرآن، وحاجة العصر، وعلى د. الافندي ان يرجع لمصادرها ، ليثبت صحة دعواه .. كما ان الترابي ، لم يعتبر العقل سلطة دون الوحي ، كما ذكر الافندي ، ممالاة بالباطل ، وانما اعتبره سلطة فوق الوحي !! فهو قد رفض النصوص ، لانها لم توافق عقله ، او عقل العلماء في عصره .. ففي حديث الذبابة مثلاً ، فضل عقل الطبيب ، على نص حديث النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي زواج المسلمة من الكتابي ، فضل عقل الانسان المعاصر، على النص القرآني ، وهكذا في سائر مفارقاته .. فهل يقرب هذا، ولو من بعيد، لما دعا اليه الاستاذ محمود من الانتقال من نص قرآني فرعي، خدم غرضه حتى استنفده، الى نص قرآني اصلي، مازالت الحاجة اليه ماثلة؟!
ولعل الفرق الاساسي ، بين الاستاذ محمود و د. الترابي، هو ما اشار اليه د. الافندي ، حين قال عن الترابي «فقد اضطر مثلاً الى التراجع عن معظم اقواله حول زواج المرأة من كتابي وحد الردّة والتشكيك في البخاري والعصمة النبوية امام انتقادات التقليديين العنيفة. وقبل ذلك كان قد نشر كتيبه عن المرأة ، في مطلع السبعينيات باسم مستعار في اول الامر، ولقد ادى ذلك الى ازدواجية في الخطاب» !!
هذا التذبذب في مواقف الترابي ، وآرائه ، ثم تهربه عن مسؤولية قوله، بالتخفي بالاسم المستعار، هو اكبر الادلة على عدم الصدق ، وضآلة العلم .. وهو ما لا يستطيع د. الافندي ، ولا غيره ، نسبته الى الاستاذ محمود، فلقد رأى خصوم الاستاذ كيف ثبت على مبدئه حتى لقى ربه، والذين اطلعوا على افكاره لاحظوا ان الانسجام التام، هو ما يميز كل ما كتب، منذ اول بياناته ، وحتى آخر ما خطت يمينه.
أين يضع الأفندي نفسه ؟:
يقول د. الافندي عن د. الترابي «فقد كانت للشيخ الترابي حلقة داخلية صغيرة من الانصار يخاطبها بصريح آرائه الفقهية، بينما كان يدخر خطاباً آخر لعوام الخلق ... واخذ يسود وسط هذه الصفوة المدعاة استخفاف كبير ببقية المسلمين وفهمهم للدين، بل وبكثير من تعاليم الدين» !! ولقد دل د. الافندي بهذا الحديث ، وغيره مما ورد في مقاله، على انه لم يعد يوافق د. الترابي .. فما رأيه في الجناح الآخر، من الحركة الاسلامية ، التي كان عضواً فيها؟
يقول د. الافندي عن الجناح الآخر للحركة الاسلامية «فلم يجدوا بأساً في الايقاع به وانكار سابقته، لانهم اصبحوا يرون انفسهم فوق كل شريعة وعرف، ولا نزال نسمع من بعضهم تصريحات يستخفون بها بالعباد أفراداً واحزاباً وأمة، اضافة الى ما نعلمه مما يتداولونه في مجالسهم ويتناجون به من آراء خلاصتها انهم قادرون على حكم الشعب بالحديد والنار والكذب والنفاق وشراء الذمم، وان الامة بكل من فيها من شمال وجنوب وشرق وغرب ليس فيها فرد او جماعة تستطيع تحديهم، وهو غرور اورد الترابي ما هو فيه، وسيكتشف تلاميذه قريباً أن شيخهم كان محظوظاً، لأن مصيرهم سيكون اسوأ بكثير» !! وهكذا ادان الافندي جناح الحركة الاسلامية الذي في السلطة، وكشف لنا عنهم ما يفوق سوء الظن العريض، وصورهم لنا كمافيا لا علاقة لها بالدين!!
ثم يخلص د. الافندي، الى الحديث عن ازمة الحركات الاسلامية المعاصرة فيقول «وهي ايضاً ازمة نخبة حديثة، اما انها اعرضت عن الاسلام اعراضاً، او انها فشلت اخلاقياً وفكرياً في قيادة الأمة باتجاه احياء الفكر الديني، فهي تتأرجح بين قيود التراث ومتاهات الخواء الاخلاقي الحداثي».
لقد بدأ د. الافندي عضواً في الحركة الاسلامية، تحت زعامة الترابي ، وقبل بحكومة الانقاذ ، وتعاون معها ، ثم اختلف معها ، دون ان يوضح سبب ذلك ، واخذ ينقدها ، اولاً ، لا من موقع الحداثة ، وانما لعدم تطبيقها للشريعة .. وبعد ذلك ، تبنى افكار الحداثة اكاديمياً ، واخذ يكتب عن الديمقراطية وحقوق الانسان .. وها هو ينتقد شيخه ، وينتقد رفاقه في حكومة الانقاذ، ثم يضعف اخلاقياً، عن ان يعلن في اية مرحلة من مراحل تحولاته، انه كان مخطئاً ، او انه تبنى فكراً جديداً سيحقق به الخلاص من ازمة الفكر الاسلامي المعاصر.. فاين انتهى به المطاف ؟!
واذا كان د. الافندي لا يقبل الفهم المتحجر الذي كفر الترابي، ثم هو في نفس الوقت يرفض اجتهادات الترابي، ويرفض الحداثة الغربية المشبوهة، ويرفض آراء الجمهوريين، دون ان يطلع عليها، ثم لا يقدم لنا فهماً بديلاً عن كل ذلك.. فهل يصف هنا، شيئاًً آخراً، غير نفسه حين يقول: «تتأرجح بين قيود التراث ومتاهات الخواء الاخلاقي الحداثي»؟!