لمحة عن النموذج الترابي التونسي 2/2
التيار الترابي في البلاد العربية والمراجعات المفقودة: لمحة عن النموذج الترابي التونسي 2/2
19-4-2006
بقلم نوفل بن إبراهيم ـ باحث تونسي مقيم في النرويج
لئن لزم الغنوشي الصمت كعادته في مثل هذه الأمور, حتى لا يثير عليه العلماء وهو بحاجة إلى إرضاء الجميع, وتزويق خطاب مناسب لكل تيار كما هي عادته, فإن بعض تلامذته لم يتحمل الصمت, فهاهو أحد رموز حركة النهضة التونسية في ألمانيا, حبيب المكني, يكتب مقالا طويلا تحت عنوان "تصريحات الترابي واختبار جديد لمبدأ حرية الرأي"
*التيار الترابي في تونس ودخول العمل السياسي:
ثم كان الإعلان عن ميلاد حركة الاتجاه الإسلامي ودخول العمل السياسي في 6 حزيران ـ جوان 1981، وهو الإعلان الذي تحفظ عليه العديد من رموز الصحوة مثل الشيخ محمد الصالح النيفر رحمه الله، فالصحوة كانت يانعة لم تقف على رجليها بعد, وقياداتها ينقصها الكثير من العلم والتمرس, فكيف تقتحم بالجموع زخم العمل للسياسي مرة واحدة؟, وقد دأبت الحركة منذ إعلانها عن نفسها بإبراز تميزها عما كانت تسميه بالحركات الإسلامية المشرقية, وهو توجه ترابي بحت, لتبرير مخالفاته.
ثم جاءت محنة بداية الثمانينات، حيث سجنت قيادات الحركة من 1981 إلى 1984، لتخرج بعفو رئاسي بعد أن توجه أحد قادتها برسالة طلب عفو من رئيس الدولة, واستمر مسلسل" الاجتهادات الترابية" الجديدة وبدأ الترويج لكتب مالك بن نبي, بعد أن كان مهمشا بسبب غلبة التوجه الإخواني الذي كان يتحفظ عليه آنذاك.
*المكونات العقدية والفكرية لأتباع حركة النهضة:
ولفهم أعمق للتكوين العقدي و الفكري لحركة النهضة, لابد لنا من الرجوع إلى بحث كتبه الأستاذ الغنوشي ونشره "مركز دراسات الوحدة العربية" مع بحوث أخرى ألقيت في مؤتمر عقده المركز عن" الصحوة الإسلامية في الوطن العربي", ففي هذا البحث الذي حمل عنوان "حول مكونات الظاهرة الإسلامية في تونس"، يقول الغنوشي بأن هذه المكونات هي ثلاثة, وقد أسهمت مع بعضها في تكوين ذهنية أتباع الحركة, بعد أن تفاعلت:
1ـ التدين التقليدي التونسي: وهو المتمثل في عقيدة الأشعري وطريقة الجنيد السالك والمذهب المالكي.
2 ـ التدين السلفي الإخواني: موضحا أنه يعني الاهتمام بشمولية الإسلام, وبمسالة الحاكمية, ورفض القبورية والدعوة إلى الاجتهاد ورفض التعصب المذهبي.
3ـ التدين العقلاني: ويقول إنه المهيمن على الجناح الطالبي للحركة: ومن ميزات هذا التيار كما يرى، الإعلاء من شأن العقل, ونقد المنهج الاخواني وتجربته, والتفاعل الايجابي الكبير مع الثورة الإيرانية، والدعوة إلى التفاعل مع التجارب اليسارية في العالم ومع الفكر اليساري, وإلى إعادة الاعتبار للفرق التي أهملتها القراءة الرسمية السنية للتاريخ..
وأضيف بأن هذا المكون هو الذي هيمن على قيادة الحركة بعد تخرج الطلبة من الجامعة، باعتبار أن المثقفين هم من يقودونها في النهاية وليس التيار الشعبي الذي ظل في عمومه أقرب إلى المنهج الإخواني العام, أو ما يسميه الغنوشي بالتدين السلفي الإخواني, وهو ما نلمسه في أغلب العناصر غير المثقفة من أتباع النهضة في المهجر, أما في تونس اليوم فقد اختفت الحركة من الساحة الشعبية.... وعندما تقرأ لغالب النهضويين اليوم وإخوانهم من أنصار المدرسة الترابية الذين اختلفوا مع الغنوشي, وتركوا التنظيم, ولكن لم يتخلوا عن المنهج الترابي, تخال نفسك تقرأ لعلماني من العلمانيين, فلا تقرأ إلا عن الوطن وأوجاع الوطن والمجتمع المدني, بل لا أستغرب أن نقرأ لهم قريبا عن "أزمة الأغنية والموسيقى التونسية وسبل النهوض بها"!, "لأنه لا بد من الالتصاق بالجماهير وهموم الوطن والتخلي عن المثالية..."، ولم لا, فقد كنا معشر مناضلي ومناضلات الاتجاه الإسلامي نذهب أفواجا إلى مهرجان السينما في تونس لنشاهد الأفلام المشاركة في المسابقة، فنتفرج في اليوم الواحد على ثلاثة أفلام على الأقل, وكنا كالمجانين من قاعة سينمائية إلى أخرى, والكثير من تلك الأفلام كانت تحوي مشاهد مخلة بالآداب, ورغم أنني كنت أتساءل أحيانا بيني وبين نفسي عن شرعية ذلك, إلا أنني لم أكن قادرا على الإنكار, فهو التوجه العام للحركة التي أثق فيها ثقة عمياء, وأقول لنفسي إن الضرورة تبيح ذلك, وذلك حتى نتعلم النقد السينمائي, وتصبح لنا قدرة على إنتاج سينما إسلامية!
* الرؤية الفكرية والمنهج الأصولي لحركة الاتجاه الإسلامي، والنزعة الاعتزالية الواضحة:
وخوفا من تفلت أكثر للحركة بسبب ضعفها العلمي وجرأتها على النصوص, ولتميزا عن اليسار الإسلامي الذي مضى أسرع من الحركة في التحلل من مصدر التلقي, وظل يستقطب من حين لآخر بعض شباب الحركة المتفوقين فكريا وسياسيا, كما حصل مع زياد كريشان وكمال بن يونس وعبد العزيز التميمي، الذين كانوا من ألمع قيادات "الاتجاه الإسلامي" في الجامعة, فقد رأت الحركة وضع ما سمته بـ"الرؤية الفكرية والمنهج الأصولي لحركة الاتجاه الإسلامي", فكان أن كلفت د. عبد المجيد النجار, وهو المفكر الأزهري, بوضع تلك الرؤية، فصاغها على المنهج الترابي الذي اختاره تعزيزا لإعلاء منزلة العقل أمام النص، وتوسعا لما سماه بمنطقة الفراغ في الشريعة الإسلامية، التي اعترفت الحركة في نص وزعته لشرح تسميتها باسم "حركة الاتجاه الإسلامي"، بأنه مصطلح مستعار من محمد الباقر الصدر.
وقد عمل النجار على أخذ موقف وسط بين أهل السنة وبين دعاة ما يسمى باليسار الإسلامي, فيما يتعلق بما سماه بالفهم المقاصدي للنصوص, الذي أهدر فيه اليساريون النصوص إهدارا تاما مقابل ما يرونه من مقاصد وضعوها للشريعة, فصارت المقاصد والمصالح عندهم تنسخ الأحكام الشرعية القطعية، مثل أحكام الميراث والحدود وغير ذلك, مستدلين بالطوفي الذي قال بالعمل بالمصلحة حتى ولو خالفت النص, ومقتدين بمعلمهم, حسن حنفي القائل بأن "الوحي علماني في جوهره"، مستدلا بالنسخ في القرآن الذي هو تغيير للأحكام بتغير الوقائع كما يرى, ويرى أن النسخ يستمر بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم, مع تغير الوقائع والمستجدات.
وهكذا لم يعد هناك ضابط أمام الاجتهادات، وصار يكفي أن تكون طلق اللسان وقارئا لفلان وعلان من دعاة "الفكر الإسلامي المستنير"، والأفضل أيضا للجابري وأركون ولميشيل فوكو وجاك ديريدا, لتكتب ما تشاء وتقول ما تشاء ولا أحد يعترض عليك.
* الحركة ومرحلة المهجر:
بعد المواجهة الكبيرة مع النظام في تونس في صيف 1991م, منيت الحركة بهزيمة قاسية, لم تدفع ثمنها لوحدها, و لكن كل العاملين للإسلام في تونس, على اختلاف مشاربهم ومناهجهم,وفي المهجر الأوروبي استقرت بقايا قياداتها التي لم تنسحب من الحركة أو أفلتت من السجن، وكذلك أغلب بقايا أتباعها, وهناك خضعت الحركة إلى تأثير التيارات السلفية على العديد من أتباعها ـ في الواقع لقد بدأ التأثير السلفي لدى الكثيرين, منذ مرحلة الهجرة إلى السودان بالنسبة لمن أقام في السودان قبل الهجرة إلى أوروبا, بعد خيبة الأمل في النموذج الترابي في السودان الذي انكشف لهم على حقيقته ـ مما جعلها تخسر العديد من أتباعها, وتضطر إلى شن حملة تحصين لضمان ولاءهم.
وفي نفس الوقت، ومع مرور الزمن واستعصاء عفو النظام عن الحركة, كان التواصل مع شق هام من اليسار الماركسي الراديكالي المتطرف في عداوته للإسلام وللشريعة الإسلامية والعلمانيين, يتوطد حتى كادت تختفي الحواجز..
وكان من نتيجة هذا الفكر الترابي المتألق، محاربته للسلفية وتواصله مع اليساريين. بل بدأت القيادات المتألقة تتساقط صرعى اليسار، فهذا القيادي المناضل العتيد نور الدين الختروشي، الذي طالما نسق ولا يزال مع اليسار التونسي في باريس يعلن انسحابه من حركة النهضة وتخليه عن "الإسلام السياسي"! كما قال، ورغم ذلك فلم يتوان هادي بريك أحد قيادات حركة النهضة في ألمانيا من كتابة مقال كامل لمدحه، وذلك لأن الختروشي قد رفض عرض أحد مبعوثي النظام له بالعودة إلى تونس، فأخذوا ينفخون في موقفه النضالي البطولي, لأن ذلك هو الأهم, أما قضايا التدين، فلا تحظى بالقدر نفسه من الاهتمام.
وفي الوقت الذي لا نجد فيه مراجعة واحدة أو اعتذارا من الحركة للسلفيين الذين تشتمهم باستمرار وتشهر بهم في المجالس العامة, فإنها سباقة إلى الاعتذار من الإخوة المناضلين في اليسار كما يصفهم حسين الجزيري ومحمد بن سالم عضوي المكتب السياسي لحركة النهضة في حوار مع الصحفية اليسارية سهام بن سدرين, نشرته في مجلتها الالكترونية "كلمة"، وقد تضمن الحوار إضافة إلى هجمة شرسة على تيار الدعوة السلفية في تونس، اعتذارا من اليسار لخطأ فادح وقع فيه الغنوشي عندما استعمل عبارتي, كفر وإيمان, إذ يقول محمد بن سالم: "ووردت عبارة كفر وإيمان, وهي عبارة نأسف لها", مضيفا: "إن المعركة ليست بين كفر وإيمان, فراضية مازالت كيسارية محترمة, تدافع عن حقوق الإنسان, ونحترمها من أجل ذلك ونتضامن معها".
وراضية هذه هي راضية النصراوي, المحامية الشيوعية المتطرفة في عداوتها للإسلام وتشنيعها بأحكامه, زوجة حمة الهمامي زعيم حزب العمال الشيوعي التونسي الماركسي الستاليني المتطرف، الذي يستلهم من فكر رأس التطرف الماركسي أنور خوجة, الذي لا يتردد في إعلان إلحاده، ولا ينافق مثل الأحزاب الشيوعية العربية التي كانت مرتبطة بموسكو, التي ينعتها بالتحريفية, وقد تسبب هذا الحزب في ردة الآلاف من الشباب عن الإسلام في تونس, وقد عرف الحزب بدمويته وإرهابه, لكن الغنوشي وجماعته يدافعون عنه ويستميتون في التحالف معه لمجرد أنه مختلف مع السلطة في تونس. ونجد الغنوشي يدخل في إضراب جوع في مكتبه في لندن منذ سنوات قليلة تضامنا مع راضية النصراوي القيادية الشيوعية المضربة عن الطعام في بيتها حتى يطلق سراح زوجها "المناضل العتيد".
* موقف الترابيين التونسيين من تصريحات الترابي الأخيرة:
لئن لزم الغنوشي الصمت كعادته في مثل هذه الأمور, حتى لا يثير عليه العلماء وهو بحاجة إلى إرضاء الجميع , وتزويق خطاب مناسب لكل تيار كما هي عادته, فإن بعض تلامذته لم يتحمل الصمت, فهاهو أحد رموز حركة النهضة التونسية في ألمانيا, أبو وليد حبيب المكني, يدبج مقالا طويلا تحت عنوان "تصريحات الترابي واختبار جديد لمبدأ حرية الرأي"، ينشره على موقع نهضوي هو موقع الحوار, يقول فيه في مقدمته إنه لا يحب التكلم في المسائل الشرعية، ويتركها إلى أهل الاختصاص, ثم يناقض نفسه في كامل المقال في رده على أهل العلم والاختصاص، بتهجمه عليهم على إدانتهم للترابي ومطالبتهم باستتابته, مطالبا بما يسميه حرية الفكر, ورفض الوصاية على الناس، مدينا الحكم الذي سبق أن صدر في عهد نميري بردة زعيم الإخوان الجمهوريين الباطني, علي محمود طه، وهكذا على العلماء أن يخرسوا ليتركوا لرويبضات الترابي المجال أن يجتهدوا في الدين على هواهم, وما يقوله المكني يتفق مع ما سبق أن صرح به الغنوشي للصحفي الأردني قصي صالح درويش في كتابه "حوارات مع الغنوشي"، إذ عندما سأله درويش عن رأيه في سلمان رشدي ورواية "أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ, كان جواب الغنوشي: "أنا ضد تدخل الفتوى في قضايا الفكر"!
كانت الأسطر السابقة مختصرا لفكر وممارسات التيار الترابي التونسي, للدلالة على أن الأمر يتعلق بظاهرة كرسها الترابي وتلامذته في البلاد العربية, ولا تتعلق بشخص الترابي نفسه, وهي في الواقع غيض من فيض, والسؤال الآن هو: إلى أين المسير، وإلى متى يستمر مسلسل الانهيار دون ضوابط، وإلى متى يستمر خلو حركة النهضة التونسية من العلماء وتهميشها للعلم الشرعي, وإلى متى يستمر المتعاطفون من غير التونسيين في الدفاع عنهم والتعصب لهم؟
<< Home