انتصارا للترابي السياسي ومراجعة لحسن عبد الله الفقيه
انتصارا للترابي السياسي ومراجعة لحسن عبد الله الفقيه
www.arabrenewal.com
عبد المالك ولد عبد الله
لست من عبيد الأسماء وأمج التقليد والمحاكاة وأبحث دائما في ما يكتب ويروى قبل شيوع قائله كائنا من كان أو مراعاة مكانته، لكن القرابة الفكرية التي تربطني بالترابي وعمق الحب الذي كان وسيبقى يشدني إليه يفرضان على تناول مسار وتجربة الرجل إنصافا لبذله وكدحه وعتابا على بعض اجتهاداته وخرجاته.
ولن يضر المفكر حسن أحمد عبد الله الترابي أن غض منه كاتب أو أزرى به عالم "جامد" وترفعه عن الرد بل سكوته مع عادته في الرد على أنصاف المتعلمين أبلغ من التعرض لهم لأنهم عندما يساجلون فيما كتبوا أو يناظرون فيما أثاروا سيصيرون زعماء ومشاهير.
وآراء الدكتور حسن الترابي تعلم العقل ومطالعة كتبه تنمي الفكر والإستماع إلى حواراته وأشرطته والنظر إلى طلعته وابتسامته التي لا تفارق محياه يخلفان التؤدة والأدب.
صحبت الدكتور الترابي في أغلب كتبه ونتاجه، فقد قرأت له شذرات من "نظرات في الفقه السياسي"، "الحركة الإسلامية في السودان - التطور والكسب والمنهج"، وعدت إلى بحث له عن الشورى ثم الكتاب المشترك بينه والشيخ راشد الغنوشي "الحركة اللإسلامية والتحديث"، واعتمدت في رسالتي للماجستير في أصول الفقه الموسومة بـ "الإجتهاد الجماعي وأثره على المجتمعات الإسلامية" على نتف من بحثه حول "تجديد الفكر الإسلامي"، وسعدت بقراءة آخر ابتكاراته أعني كتابه الذي أعده في السجن "السياسة والحكم: النظم السلطانية بين الأصول وسنن الواقع"، وأشهد له بالتبحر والمعرفة التامة في تصانيفه الدائرة في حقل الثقافة والسياسة والفكر، ووددت لو كان مجال المحاكمة لتنظيرات الترابي "وفتاواه" المنتديات الفكرية أو الندوات العلمية، لا المجامع الفقهية أو رابطات العلماء الرسمية، وذالك لضرورة إبعاد الفتوى وساحات القضاء عن قضايا الفكر والتحرك صوب فك الوصاية على الناس وإصدار الأحكام الجاهزة.
لكن بدعة التنقيص واستهداف الكبار متأصلان في بعض أنصاف علماء هذه الأمة، فقد حسدت جماعة من العلماء قديما الآمدي الفقيه الأصولي وحملهم التعصب إلى نسبته إلى فساد العقيدة وانحلال الطوية والتعطيل، بل ذهبوا أبعد من ذالك فوقعوا باستباحة دمه، والذي تتوزع مؤلفاته - الأكثر من عشرين مصنفا- بين أصول الفقه وعلم الكلام والمنطق وطرق الخلاف، وكان حنبليا ثم صار شافعيا، وتنقل بين بغداد والشام ومصر مدرسا وقاضيا، وله "أبكار الأفكار" و"دقائق الحقائق" و"الإحكام في أصول الأحكام" ليخرج من آخر تلك الملاحقات مستخفيا، فاستوطن حماة مقيما بطالا في بيته بعد العزل ت 631 للهجرة، نفس الأمر حصل مع سيبويه الذي يعد أعلم المتقدمين والمتأخرين بالنحو ولم ير مثل كتابه، والكل عليه عيال، تشاجر مع الكسائي "كنت أظن أن الزنبور أشد لسعا من النحلة فإذا هو هي" عند سيبويه، أو "فإذا هو إياها" لدى الكسائي، ولأن الأخير معلم الأمين بن هارون الرشيد، وكان ابن الخليفة شديد العناية به، فقد وقف العرب الخلص عندما عقد المجلس واجتمع الأئمة للتعصب للكسائي وتخطئة سيبويه، فخرج من بغداد حاملا في نفسه لما حيك ضده ليصل بلاد فارس ويتوفي في قرية من قري شيراز مهملا سنة 180 للهجرة.
وليس المفكر الترابي بدعا في ذالك، وأتمثل هنا:
حسدوا الفتي إذ لم ينالوا سعيه فالقوم أعداء له وخصوم.
ملأت شخصية الترابي الدنيا وشغلت الناس في العالم الإسلامي وغيره أواخر القرن المنصرم إلى يومنا هذا، وكانت تجربته محك دراسة وتمحيص الغربيين ومتابعي العمل الإسلامي، ويحسب له أنه أفرز خطابا إسلاميا مغايرا، واستطاع المفكر الطموح - في وقت تراجع فيه عطاء الحركة الإسلامية- النهوض بالإسلام الحركي من آثار المحن (مصر، سوريا، تونس) وواقع العزلة وشيوع فكر سيد قطب، والدفع نحو الواقعية والتفاعل بعيدا عن المغالبة والنقمة على ما يدعى "جاهلية المجتمع وتكفير الحكام" ويكاد يكون وحده الذي نجح نظريا في بلورة رؤى فكرية متكاملة ومتفتحة على الآخر وتتسم بالمرونة والواقعية متسلحة بما يمكنها من مواجهة تحديات العصر، رغم أن التطبيق بعد ذالك - حيال التجربة- جاء دون تطلع المتفائلين، ولم يخجل أو تأخذه العزة بالإثم من نقد "ثورة الإنقاذ" لاحقا، والحق أن الترابي سياسي أكثر من كونه مفكرا، إلا أنه مع ذالك فاق السياسيين - ممن يغلب على أكثرهم التبلد والخوف- بالفكر والجرأة، وليته بقي يمارس وينظر في سماء المقاربات والمقارنة والتحليل والسياسة وقضايا العصر، وترك الفتوى وأهلها.
انتسب حسن عبد الله إلى الإخوان المسلمين بعد تخرجه من فرنسا 1964 وبالتزامن مع استقالة الرشيد الطاهر المراقب العام لإخوان السودان، ليتم انتخاب الترابي لاحقا زعيما لامتداد جماعة الإخوان المسلمين في السودان 1969 منافسا الزعيم التاريخي صادق عبد الله عبد الماجد.
يتميز الترابي السياسي برصيد قل أن يرقي إليه غيره، فقد قضى في السجن محطات طويلة من حياته جاءت دون فترة "مانديلا"، وربت على زمني عباس مدني وعلي بلحاج.
في عالم السياسة يناور الترابي كثيرا ويكاد لا يلتزم موقفا ثابتا، ويراوغ ليصل إلى مقصده، ويوصف بالإسلامي "البراغماتي"، كما ذاع عن الشيخ محفوظ نحناح رحمه الله، ويستخدم ما تيسر من الوسائل والحيل لمآربه، ويعيبون عليه "ميكيافيليته" في تبرير غاياته بأي وسيلة عندما يتناقض ويضر بأفكاره، وبوأه ألد خصومه وزارة العدل بعد إحدى محن السجن، وتدرج رغم تباين الخلفيات الفكرية والقناعات السياسية في عضوية المكتب السياسي للإتحاد الإشتراكي حتى غدا النائب الأول للبلاد ثم المستشار الخاص للرئيس، ليقنعه بعد ذالك بتطبيق الشريعة الإسلامية 1973، تحين الفرص فاقتنصها واستغل الأحداث والظروف فوظفها لمصلحته، وكان يخترق ويتسلل ليصنع تحالفات ويبني وسائل وآليات تعز على غيره، ويقاس مشوار السياسي - عادة- بما قدم وأنجز وحقق، لا بما أبرم أو أخفق فيه من محاولات، هذا طبعا في ضوء المصلحة من وجهة نظرنا.
والمفارقة أن الإخوان في السودان الذين ترأسهم لفترة، أصدروا بيانا سنة 1977 جاء فيه أن الخلاف بينهم وبين الترابي خلاف في الأصول، ولم تثنه خصومات منافسيه، وطالته جملة من الشائعات رغم شدته على الشيوعيين في بلده ومقارعته لخصوم الإسلام في الغرب وأوروبا، لما يتقن من لغات عديدة وما استكمله من ثقافات ومعارف الأمم الأخرى، ثم استضافته وإيواؤه لقيادات الحركة الإسلامية، وإعطاؤه الأوامر بإطلاق العنان للعربية والتعليم الأهلي والإسلامي في السودان وحصل ذالك فعلا، ثم استقباله للوافدين من أبناء الأمة وطلبة العلم لفتح آفاق الحياة أمامهم.
استهدف الترابي الشباب ونادى بتحرير المرأة وخاض في الديمقراطية والشورى كثيرا، وتنبه للمواطنة قبل غيره، وألف "قيم الدين ورسالية الفن" ونظر للجمال في الإسلام، وألح على ضرورة اعتزال كل من تجاوز الستين للعمل السياسي لإعطاء الفرصة لحداث السن.
ينظر إليه الكثير من الإسلاميين باعتباره يمثل مدرسة تجديدية إسلامية مستقلة بذاتها، لذا قال عنه الأستاذ: فتحي يكن - الذي يعد أحد القيادات الفكرية والحركية المعروفة للإخوان المسلمين- أقر بأن الترابي بجانب الغنوشي وسيد قطب، مدرسة تجديدية مستقلة بذاتها من ضمن ما أسماه بالمدارس التجديدية للإخوان المسلمين، ويصفه الشيخ: راشد الغنوشي بالعلامة والإمام المجدد.
عرف بقوة المبادرة وطول النفس، فقد تحالف في يونيو 1989 مع الجنرال عمر حسن البشير ليطيح بالصادق المهدي زعيم حزب الأمة ورئيس الدولة، بعد أن أسس الجبهة الإسلامية القومية، ومني بالفشل في الإنتخابات الرئاسية، وأسس لاحقا بعد أزمة الصلاحيات والنزاع مع البشير حزب المؤتمر الشعبي وانضم إلى صفوف المعارضة، ثم في ابريل 1999 أسس المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي في مؤتمر ضم ممثلين عن 45 دولة إسلامية وأصبح أمينه العام.
يتهمه خصومه بالاستبداد وتجميع السلطات، مما جعل بعض تلامذته وأتباعه ينقلبون عليه، ويرى فيه أنصاره السياسي المحنك، والبارع المؤثر في التنظير، والداعية المفكر، والخطيب الخبير في تحريك الإعلام.
للموضوع بقية...
تاريخ الماده:- 2006-05-05
<< Home