Tuesday, May 23, 2006

عن الشيخ الترابي وخصومه مرة أخرى

عن الشيخ الترابي وخصومه مرة أخرى حرية التفكير وحرية التكفير ومعالجة الأميَّة د.عبد الوهاب الأفندي صدق بعض ما تخوفت منه حين عالجت قبل حوالي الشهر في هذا الموقع الجدل الذي أثارته فتاوى الشيخ حسن الترابي القديمة المتجددة، حين أشرت إلى أن القضية معقدة وأحلت إلى تناولي لها في مكانها بشكل معمق باعتبارها تحدياً يواجه الفكر الإسلامي الحديث برمته، وهو ما لا تفي به التعليقات المختصرة من مثل ما تسمح به المساحة هنا واهتمامات القارئ غير المتخصص. ولكن هذا بالطبع لا يبرر الفهم المبتسر لما قيل فعلاً، خاصة من بعض من يظن بهم أنهم من أهل التخصص، ولا بعض اللبس الذي وقع فيه البعض، خاصة حين حاولوا تحويل النقاش إلى سجال حول آراء العبد الفقير إلى مولاه ومواقفه السياسية. ولا شك أنه مما يرضي غرور الكاتب أن يعتقد المعلقون بأن مناقشة آرائه هو تعادل في أهميتها مناقشة الموضوع تحت النظر، وهو آراء الشيخ الترابي. ولكن النقاش يتحول إلى إشكال في ظل الأمية الاختيارية التي فرضها البعض على أنفسهم. أحد الكتاب مثلاً كرر وصفي ب "صاحب كتاب الثورة الترابية" (ويقصد بالطبع كتاب "ثورة الترابي: الإسلام والسلطة في السودان الذي صدر بالإنجليزية عام 1991)، مما يعني أنه لم يطلع حتى على غلاف الكتاب فضلاً عن أن يكون قرأه. وهو بالطبع ليست لديه أدنى فكرة عن الكتاب الذي كان ملخصاً لرسالة دكتوراه قدمت في جامعة غربية وكان المشرف عليها أستاذاً خبيراً بشؤون السودان غير معروف عنه أي تعاطف مع الحركة الإسلامية. فهي بالتالي نظرة موضوعية نقدية لتاريخ ومواقف الحركة الإسلامية السودانية تتسق تماماً مع مواقفنا المعروفة المنشورة في مئات المقالات في مجلة "آرابيا" وعلى صفحات "القدس العربي" وفي كتب ومجلات أكاديمية تسد الأفق. وبالتالي فإن تكرار الحديث بأن العبد الفقير إلى مولاه يواجه "محنة" أو "مأزقاً" بسبب التدهور الذي أصاب الحركة الإسلامية عامة والسودانية خصوصاً يعكس محنة ومأزق من فرضوا على نفسهم الأمية ويريدون كما كررت سابقاً للكاتب أن يكتب ثم يقرأ نيابة عنهم، وهو دور للأسف لا نملك الوقت ولا الرغبة في القيام به. فلسنا وكلاء عن من فرضوا على أنفسهم الأمية، خاصة في عصر الانترنيت الذي يكفي أن تجري البحث فيه عن اسم كاتب فتردك آلاف الصفحات عما كتب وما كتب عنه بكل اللغات. ونحن ننصح هؤلاء الإخوة بمداواة أميتهم بشيء من القراءة، أو أن يسألوا أهل الذكر كما يفعل الأميون الذين يحترمون أنفسهم قبل أن يخوضوا فيما ليس لهم به علم. القضية الأساسية التي أردنا معالجتها (وظللنا نعالجها من زوايا مختلفة لأكثر من أربعة عقود) هي المتعلقة بالفكر الإسلامي المعاصر، وهي أنه فكر يستصحب الحداثة والعقلانية الأوروبية المعاصرة في نظرته للتراث الإسلامي. والفرق بين الإسلاميين وخصومهم من العلمانيين هو أن الأخيرين يحاكمون التراث الإسلامي إلى التراث الحداثي الغربي، بينما يتخذ الإسلاميون موقف الدفاع عن التراث الإسلامي عبر محاولة المواءمة بينه وبين ما يصعب رده من مقتضيات الحداثة. ولكن موقف الإسلاميين الدفاعي يختلف أيضاً عن موقف التقليديين الذين يماثلونهم في بناء الخنادق الدفاعية في أن الحركات الإسلامية تحتضن بعض مظاهر الحداثة، بل تعتبر نتاجاً لها، وترفض بعض توجهات التقليديين المحافظة. هناك إذن فروقاً مهمة ولكنها قد تكون دقيقة بين الإسلاميين والعلمانيين والتقليديين، وتداخلاً كذلك بين هذه التيارات. وقطب الرحى في هذه العلاقة هم الإسلاميون، الذين يقاتلون في معتركين. فهم يشتبكون مع التقليديين على أرضية الفكر الإسلامي وتأويل النصوص، ومع العلمانيين على أرضية الحداثة وانتقاد أفكار وعقائد الحداثة من ماركسية وليبرالية وغيرها. وقد نتج عن هذا بعض الظواهر المثيرة للاهتمام، خاصة ما شهدناه في السودان وغيره من تحالفات بين العلمانيين والتقليديين ضد الإسلاميين، وهو مشهد تكرر في مناطق أخرى. وبالمثل فإن التداخل بين هذه الفئات يجعل من الصعب القول أين يبدأ كل اتجاه وأين ينتهي الآخر. فهناك تقليديون- إسلاميون، وإسلاميون-تقليديون، كما نجد "إسلاميين" يقتربون كثيراً من العلمانيين. ويظهر هذا من الجدل المستمر حول ما إذا كان حزب العدالة والتنمية التركي حزباً إسلامياً أم حزباً محافظاً تقليدياً. فقيادة الحزب تؤكد بدون مواربة أن الحزب علماني ليبرالي، بينما خصومه "يتهمونه" بأنه إسلامي يكتم إيمانه. ويبدو هنا أن القضية هي بالنوايا وما في القلوب. ولعل هذا هو لب القضية. فالخلاف بين الإسلاميين وخصومهم يتمحور حول الاجتهاد في إحياء تعاليم الإسلام وتوسيع العمل بها، مقابل الإعراض عنها أو التخفف منها بأكبر قدر ممكن. بمعنى آخر الأمر يتعلق بخلاف بين من يريد اتباع الحد الأقصى من تعاليم الدين في ظل الحداثة مقابل من يريد اتباع الحد الأدنى أو عدم اتباع أي شيء. وإذا كان هناك تداخل بين من يريدون المحافظة على أكبر قدر من تعاليم الإسلام وبين من يريدون الأقل، فإن هناك بالطبع فرقاً واضحاً بين من يضعون أنفسهم في خندق الدفاع عن قيم الإسلام وتعاليمه، وبين من ينصبون المدافع لقصفه. ومن هذا المنطلق فإن الضجة التي ثارت حول أفكار الترابي التي طرحها مؤخراً تتعلق بمحاولة إعادة تصنيفه. فخصومه من التقليديين يرون أنه تحول إلى معسكر من يريد التخفف من كل ما يمكن التخفف منه من تعاليم الإسلام، بينما خصومه من العلمانيين رحبوا بما رأوا أنه اقتراب من معسكرهم، مع المطالبة بالمزيد، وخاصة التبرؤ من بعض مواقفه السابقة. وقد بلغ الأمر ببعض خصوم الترابي من التقليديين أن ذهبوا إلى تكفيره وإخراجه من الملة. وكنت قد كتبت قبل أكثر من عامين مقالة في "القدس العربي" رداً على ما أورده بعض الكتاب السلفيين من زعم بأن الشيخ الترابي كان يبطن الكفر ويفتقد الإخلاص للإسلام، وهي دعوى تخالف ما عليه الرجل من تاريخ في المنافحة عن الإسلام والتضحيات في هذا السبيل، ناهيك عن ما هو معروف عنه من تمسك بتعاليم الدين في سلوكه الشخصي. وليس هناك على كل حال ما يغري من لديه ضعف في الالتزام الديني أن يتظاهر بغير ذلك في عصر ما يزال القابض فيه على دينه كالقابض على الجمر، ناهيك أن يتصدى ذلك الشخص لقيادة معركة إحياء الدين. من هنا فإن من قادوا حملة تكفير الشيخ الترابي لم يحالفهم التوفيق. فإنه يحق لمن شاء أن يخالف الترابي اجتهاداته، ولكن لا يحق لهم التشكيك في عقيدته ونياته. ولا علاقة لهذا بما ذهب إليه البعض (عمر القراي في جريدة "الصحافة" على سبيل المثال) من أن التكفير اعتداء على حرية التعبير. فالقراي هنا يناقض نفسه حين يدافع عن حرية التعبير بينما يهاجم الذين يعبرون عن رأيهم الديني. فكما أشرت أيضاً في مقالة سابقة في "القدس العربي" فإن حرية التفكير تستتبع حرية التكفير. ذلك أن توضيح أسس العقيدة في كل دين يشتمل على تحديد للإطار الذي يحدد حدود العقيدة وما هو داخلها وما هو خارجها. فأنظمة اللاهوت كما يقول محمد أركون هي نظم من الإقصاء المتبادل. والقائمون على كل ملة من العلماء وغيرهم يرون أن من واجبهم التنبيه إلى ما يرونه خروجاً على أسس العقيدة. وحدود كل ملة أو جماعة دينية تتحدد من داخلها وعبر الحوار (وحتى الاقتتال) بين أفرادها. ولكن لا توجد سلطة خارج الجماعة تحدد هذا الأمر. فالعقيدة الإسلامية هي ما تواضع عليه المسلمون وتوارثوه، كما أن اللغة العربية هي ما تحدث به العرب. على سبيل المثال نحن معشر المسلمين نعتقد أننا مسيحيون أكثر من المسيحيين، وموسويون أكثر من اليهود، وأننا نمتلك الحقيقة النهائية حول طبيعة المسيح عليه السلام ورسالته. ولكن هذا لا يجعلنا مسيحيين أو يهوداً، لأن تعريف من هو مسيحي أو يهودي حسب أهل هذه الملل يستبعد من يقولون بقولنا عن المسيح، أو من يؤمن مثلنا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم. وبالمثل فإن من جاء بفهم جديد للإسلام يناقض ما تواضع عليه المسلمون (بغض النظر عن صحة مقولته أو عدمها) يقف خارج أرضية الإسلام بتعريفه المقبول. ومن حق من يرى ممارسات تقع خارج سياج الملة أن يعلن ذلك، بل من واجبه. ولكن هذا حق وواجب يجب أن يستخدم بمسؤولية وحذر، لأنه قد يرتد على من يمارسه كما جاء في الحديث. وليست لدي أية رغبة في الدخول في جدل لاهوتي حول صحة مذاهب بعينها، وخاصة حول الفكرة الجمهورية. ولكن الأخ القراي قد أراحني من ذلك حين رد على نفسه بنفسه (كما فعل حين ناقض نفسه في أمر حرية التعبير) إذ أعطى نموذجاً لهذا الفكر في تعليقه على حديث تأبير النخل الذي فهمه المسلمون عبر العصور على أنه كان حالة عبر فيها الرسول صلى الله عليه وسلم عن رأي في أمر دنيوي ثم رجع عنه بعد أن اكتشف أنه كان على خطأ. وبحسب القراي فإننا والصحابة وكل أجيال المسلمين السابقة على خطأ، بل وأسأنا الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم حين اتهمناه بالجهل بأمر تلقيح النخل وهو ابن الصحراء. فالحقيقة هي أن الرسول كان يدعو صحابته "الى مستوى رفيع من التوكل ، حين دعاهم لاسقاط الاسباب ، اعتماداً على الله ، وتوكلاً عليه ، فقال «لو لم تلقحوه لأثمر» ، لان الله في الحقيقة ، هو سبب الاثمار وليس التلقيح .. ولكن الاصحاب ، لم يحققوا هذا المستوى من التوكل ، فلم يثمر النخل .. ولهذا دعاهم مرة اخرى، الى الاسباب، حين قال «اذهبوا انتم اعلم بشؤون دنياكم» !! أي ان دنياكم دنيا اسباب ، ولهذا اذا لم تؤدوا الاسباب، سوف لن تجدوا نتائج، الا اذا ارتفعتم من الاسباب ، الى رب الاسباب." هذا الفهم غاب كما ذكرنا عن كل أجيال المسلمين حتى فتح الله به على القراي وشيخه بوحي منه، حيث لا توجد وسيلة اتصال أخرى مباشرة ليصحح بها الرسول هذا الفهم الخاطئ. وهذا يعني أن الرسول صلى الله عليه وسلم كتم الرسالة وغش المسلمين حين لم يوضح لهم الأمر بهذه الصورة، وهي تهمة أسوأ بكثير من الجهل بإجراءات تلقيح النخل، مع العلم بأن معظم النباتات التي تحتاج إلى تلقيح تثمر بدون تلقيح بشري بسبب الرياح أو الطيور والحشرات وغيرها. وبالعودة إلى مسألة حرية التعبير فإن القبول بمبدأ حرية التعبير لا يعني الموافقة على كل ما يقال، مثلما أن الاستشهاد بآية "من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" لا يعني أن الكفر والإيمان سواء عندالله تعالى! فالذي يستمع للبعض هذه الأيام يكون معذوراً لو ظن أن الكفر مما يسمح به الله تعالى بل يدعو له! فعلى سبيل المثال نحن خالفنا إخواننا المسلمين هنا في بريطانيا حين طالبوا بإسكات سلمان رشدي، في الوقت الذي ندين فيه أشد الإدانة ما كتبه من إسفاف متعمد. تلخيصاً نقول إن القضية المحورية في الجدل الذي ثار أخيراً حول فتاوي الشيخ الترابي ليست هي قضية حرية الرأي، وهي مسألة مفروغ منها، وليست قضية إيمان الترابي من كفره. وليست هي من باب أولى قضية مواقف العبد الفقير إلى مولاه السياسية. القضية هي أكبر من كل ذلك، وهي الموقف من الوحي والعلاقة معه، وما هي مكانة العقل الإنساني في التلقي والتأويل، وكيفية التوفيق بين الكرامة التي أسبغها الله تعالى على الإنسان وما وهبه من حرية وعقل، وما طلبه من الإنسان من طاعة وامتثال لما أمر به. وكل هذه أمور تستدعي تفكيراً متعمقاً من أهل الشأن بعيداً عن مكايد السياسة وطائفية المذاهب والأحزاب.