دليل الدول الفاشلة
المنطقة الخضراء في المنطقة الحمراء..
سعد صلاح خالص
أصدرت منظمتا صندوق السلام ومؤسسة كارنيجي للسلام العالمي الأميركيتين المستقلتين تقريرا مثيرا للاهتمام نشرته مجلة السياسة الخارجية الأميركية (فورين بوليسي) الرصينة بعنوان (دليل الدول الفاشلة)، يتناول أكثر60 دولة في العالم فشلا في مواجهة متطلبات شعوبها، معرفا الدولة الفاشلة بأنها الدولة التي لم تعد قادرة على أداء فعالياتها الأساسية مثل التعليم وإدارة الخدمات الأخرى وغير ذلك، لأسباب عدة منها العنف المتناهي أو الفقر الشديد، وتعاني من فراغ للسلطة بحيث يصبح المواطنون ضحايا للجماعات المتصارعة وللجريمة حيث قد يتطلب الأمر أحياناً تدخل الأمم المتحدة أو دول الجوار لتفادي كوارث إنسانية.. كما أن هذه (الدولة الفاشلة) عرضة في حالات كثيرة لتدخلات حكومات وجهات أجنبية، مجاورة أو غير مجاورة، لإزكاء العنف الطائفي والمذهبي والاثني والمناطقي مما يعجل بهذه الدول إلى الانهيار.. أي أنها باختصار، (دول آيلة للسقوط).. وقد وعد واضعو التقرير بأن يتم إضافة الدول الأخرى إلى الدليل تدريجياً ليشمل 191 دولة الأعضاء في الأمم المتحدة. ويستخدم (الدليل) اثني عشر مؤشراً لتقييم فشل الدول وهي:تنامي الضغط السكاني، ونزوح أعداد كبيرة من اللاجئين من الخارج أو عبر التسفير في الداخل مما يؤدي إلى حالات طوارئ إنسانية معقدة في البلاد، ووجود ميراث ثأري أو جماعات تسعى للانتقام والهوس الجماعي بالعنف، والهروب المستمر والمزمن للمواطنين من الدولة، والتنمية الاقتصادية غير العادلة بين مختلف مكونات المجتمع، والتدهور الاقتصادي الحاد، وتجريم الدولة والمناداة بعدم شرعيتها، وتنامي التدهور في الخدمات العامة، وسيادة القانون أو تطبيقه بشكل كيفي وشيوع انتهاكات حقوق الإنسان، ونشوء المؤسسة الأمنية كدولة داخل الدولة، والصراع الفئوي بين النخب السياسية والاجتماعية، والتدخل الخارجي من دول أوجهات سياسية خارجية.. وفيما يخصنا، بعيدا عن المقارنات مع العالم المتقدم والاكتفاء بالجوار العربي والإقليمي، فقد جاء ترتيب العراق فيما يسمى بالمنطقة الحمراء وهي التي تضم الدول العشرين الأكثر فشلا وعرضة للانهيار، وبالتحديد في المرتبة الرابعة قبل الأخيرة، متفوقا على السودان والكونغو الديموقراطية وساحل العاج فقط، ومتخلفا بثلاث مراتب عن اليمن واثنتين عن سيراليون وواحدة عن الصومال! وبأربع وعشرين مرتبة عن سوريا التي جاءت في المنطقة البرتقالية (التالية للحمراء) في المركز الثامن والعشرين، واثنتين وثلاثين عن لبنان ومصر اللتين جاءتا معاً في المرتبة السادسة الثلاثين، وبإحدى وأربعين مرتبة عن المملكة العربية السعودية التي جاءت في المرتبة الخامسة والأربعين ولكن في المنطقة الصفراء التالية للبرتقالية، وبخمس وأربعين مرتبة عن تركيا في المركز التاسع والأربعين، وبسبع وأربعين مرتبة عن البحرين في المرتبة الحادية والخمسين، وبثلاث وخمسين مرتبة عن إيران التي جاءت في المرتبة السابعة والخمسين. وإن اختلف البعض حول هذه المؤشرات ومدى انطباقها على الواقع، والتي في رأيي تتم بشكل حيادي وصارم إلى حد كبير، فإن نظرة إلى (العلامات) التي حصلت عليها جمهورية العراق (المتألفة واقعياً من جمهورية المنطقة الخضراء ببغداد، وجمهورية ولاية الفقيه السوداء في الجنوب وجمهورية كوردستان البيضاء المستقلة في الشمال وجمهورية البعث وقاطعي الرقاب الطالبانية في الغرب وهذا ما أغفله التقرير) قد تكون مثيرة للاهتمام، مع الأخذ بالاعتبار أن ارتفاع العلامة عامل سلبي وليس إيجابياً كون المؤشرات سلبية أساسا أي ان العلامة الكاملة (10/10) تساوي صفراً في التقييم الواقعي، مع الأخذ بالاعتبار أن هذه الأرقام مبنية على إحصائيات ومتابعات إلى نهاية عام 2004. ففي معيار التدخل الخارجي لإزكاء العنف والصراعات الداخلية وبفضل جيراننا الحريصين على مصلحتنا حصلنا على العلامة الكاملة 10/10 وبنجاح ساحق لا ينافسنا فيه سوى ساحل العاج والكونغو وهايتي وأفغانستان وليبيريا وبوروندي، كما حصلنا على العلامة الكاملة في الصراع الفئوي بين النخب السياسية والاجتماعية وهي مرتبة لم تتشرف بها سوى أفريقيا الوسطى وكينيا، ثم حققنا 9.4 في معيار نزوح أعداد كبيرة من اللاجئين من الخارج أو عبر التسفير في الداخل و8.4 في مؤشر نشوء مؤسسة أمنية بمثابة الدولة داخل الدولة، و8.2 في معيار سيادة القانون أو تطبيقه بشكل كيفي وشيوع انتهاكات حقوق الإنسان، و8.9 في تدهور الخدمات العامة، و8.7 في مؤشر التنمية غير المتوازنة، و8.3 في مؤشر وجود ميراث ثأري وجماعات تسعى للانتقام والهوس الجماعي بالعنف، و6.3 في معيار الهروب المستمر والمزمن للمواطنين من الدولة، و8.0 في مؤشر تنامي الضغط الديموغرافي (السكاني)، و8.2 في معيار التدهور الاقتصادي الحاد، و8.8 في معيار تجريم الدولة والمناداة بعدم شرعيتها.وبالطبع فإن التوسع في تفصيل هذه المؤشرات يشمل الفساد الإداري والقضائي وسوء استغلال الموارد والفساد في المؤسسة العسكرية والكثير الكثير مما لا يتسع له المجال هنا. وقد دعا واضعو التقرير العالم إلى الإسراع في مساعدة هذه الدول (الحمراء) قبل انهيارها معتبرة أن إنقاذ هذه الدول من الانهيار يمثل تحديا للولايات المتحدة وأوروبا والعالم الأغنى عموماً قبل أن تصبح أوكاراً للإرهاب. وبالطبع فإن أغلب الدول الواردة في هذا التقرير الأول من نوعه هي من ذلك النوع الشهير الذي اجتمع في الدوحة قبل أسابيع تحت عنوان دول الـ 77 ومجموعة أخرى اجتمعت في اليمن تحت عنوان المؤتمر الإسلامي قبل أيام، وقبلها في القمة العربية، متشدقة بالإصلاح الذي يجب أن يأتي من الداخل، ورفض الإصلاحات المفروضة من الخارج، وطلب إزالة الديون الخارجية، وتقديم المساعدات لها من دون قيد أو شرط. والقيد والشرط المقصود هنا هي الشروط الغربية المستحدثة لتقديم المعونات المتمثلة بضرورة اعتماد مبدأ الشفافية في التعاملات المالية ومحاربة الفساد وسوء استغلال المال العام وتقديم الدعم للبناء المؤسسي للدولة عوضاً عن البنكنوت النقدي المباشر الذي يحبه قادة تلك الدول كثيراً، وكذلك الانتقاد المستمر الموجه من الدول المانحة لأنظمة الحكم الشمولية والاستبدادية التي يمثل الفساد وسوء استغلال الوارد وانتهاك حقوق الإنسان الوجه الآخر لها. ولم يتساءل المجتمعون في هذه المؤتمرات الكثيرة القول والقليلة الفعل يوما عن كيفية الإصلاح من الداخل في أنظمة تعتبر فيها خزينة الدولة محفظة خاصة للرئيس وحاشيته وزبانيته، وكيف يمكن لرئيس يمد أنبوب نفط خاص به إلى عرض البحر ليبيعه لحسابه الخاص أن يكون قائداً للإصلاح، وكيف يمكن لدولة تنفق على السلاح الخردة أكثر مما تنفق على التعليم والصحة أن تنتصر على تحدي الفقر والبطالة والمجاعة. ومن الجميل حقاً أن نرى فناني العالم ينتفضون للدول الفقيرة ويطالبون الدول الثماني الأغنى بإلغاء جميع ديون الدول الفقيرة، إلا أن هؤلاء الحالمين لا يدركون بأن هذه الديون سرعان ما تعود للتراكم لأن الإناء لا يمكن أن ينضح بأكثر مما فيه. ومن الأفضل لهذه الدول أن تطلب من شقيقات لها خرجن من دائرة المناطق الحمراء والبرتقالية والصفراء مثل الصين وماليزيا ونمور آسيا تبادل الخبرات في مجال التنمية البشرية والصناعية والاقتصادية والاجتماعية عوضاً عن مؤتمرات الاستجداء المستنزفة لمزيد من الموارد والجهود. وعودة لجرحنا العراقي النازف وترتيبنا المتقدم جدا، من المهم أن نذكر بأن العراق سابقا لم يكن بأحسن حال مما هو عليه الآن، ففي دولة المخابرات والعائلة التي تمتلك جميع الموارد لا يمكن الحديث عن تنمية أو عن إحصائيات أو مؤشرات، فكل شيء مخفي وسري، وكل ما ينشر يصب في خانة الدعاية والإعلام للنظام، والمال العام مسخر لنزوات وشهوات الدكتاتور وحاشيته، والعنف والإقصاء سمة التعامل العام، والمجتمع بمجمله يعيش حالة مؤامرة دائمة. ولعل هذه المؤشرات تعيد للنظام الجديد في العراق بعض توازنه، فيكتشف بأنه في الألفية الثالثة لا يمكن استبدال الدولة البوليسية بدولة الميليشيات الطائفية المسلحة، وأن الخطوة الأولى على طريق التقدم وإصلاح ما أفسد الدهر هي مواجهة الحقائق بشجاعة والإجابة على الأسئلة الملحة بشفافية.. هل يسعى النظام الجديد إلى استنساخ الحالة الايرانية المتداعية أصلاً، على الأقل في أجزاء من العراق إن لم يكن في جميعها وما مدى جدية الولايات المتحدة والتحالف في دعم إنشاء أسس لنظام ديموقراطي في العراق؟ وهل ما يتحدث عنه الكورد فيدرالية اثنية أم كونفيدرالية تفرض بالأمر الواقع، وهل تمتلك النخب السياسية العراقية ما يكفي من الجرأة لمناقشة هذا الأمر بصراحة؟ وهل ينطبق تصنيف العزل الطائفي والتطهير العرقي كما تردد بعض الأخبار على ما يحدث في العراق؟ وهل يسعى العراق فعلاً لتطبيق مبدأ اقتصاد السوق وما فعل على هذا الطريق حتى الآن؟ ولماذا لا يتم الإفصاح صراحة عما يجري بين الحكومة والأميركيين من جانب والجماعات المسلحة من جانب آخر ليعرف الشعب أين يقف كل طرف من المعادلة العراقية؟ وما هي حقيقة مسلسل اغتيال الكفاءات العراقية وأساتذة الجامعة؟ وما واقع التعذيب في المعتقلات السرية، وهل صحيح ما يردده الإعلام عن مثل هذه الحوادث، وهل ذهب صدام ونظامه ليعودوا بتسميات أخرى وواجهات جديدة؟ وهل تمت معاقبة أي من ميليشيات الاعتداء على المواطنين وحرياتهم باسم الله والأئمة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟هنالك أسئلة كثيرة لا تكفي تصريحات المسؤولين الحاليين المتفائلة والمتناقضة للإجابة عنها في ظل سيادة البندقية الإرهابية من طرفين، أحدهما يحمل لواء المقاومة ويذبح الأبرياء جماعياً والآخر يحمل لواء السلطة ويذبح الناس جماعياً كذلك، عبر فرض نمط ظلامي قسري من الحياة على النساء والشباب بالقوة العمياء.. وإذ لا يستطيع أي منهما إنكار ما يحدث على أرض الواقع وتحت أعين العراقيين جميعا، فليتحدثا إلى العالم بصراحة فقد مل العراقيون مسلسلات القتل المستمرة منذ خمسين عاماً. وإن كان الجميع يتحدث عن استحالة الفتنة الطائفية أو الحرب الأهلية، فالواقع يشير إلى أن هذا الخطر داهم، ما دام القرار بأيدي قطاع الطرق والمتطرفين الذين يمتلكون الشارع على الطرفين. فالحرب الأهلية لا تحتاج إلى قرار سياسي، إذ تكفي مجموعة أحداث فردية هنا وهناك لإشعال فتيلها، ولن يرحم التاريخ من يسعى لها مهما قدم من ذرائع..عندما يعترف من هم في السلطة، ومن هم على الطرف الآخر النقيض منها، بان الخرافات والأوهام لا تخلق أوطاناً، وبأن لقمة الخبز وبعضا من هواء الحرية أهم من ثارات الأجداد، وبأن السلطة وسيلة وليست غاية، وأن الديموقراطية تحمي الجميع من تجاوزات الجميع، وبأن العراق وشعبه يستحقون أكثر بكثير من الخيارات المرة التي تواجهه بين دولة العمامة العمياء، أو دولة قاطعي الرقاب، أو دولة الاستبداد البوليسي الجنوني، أو دولة اللا دولة، عندئذ فقط يمكننا الحديث عن إصلاح أو تقدم أو بناء دولة غير (فاشلة) خارج الخانات الحمراء والبرتقالية والصفراء
<< Home