Tuesday, May 23, 2006

إجتِهَادات الشَيخ التُرَابي ... " عَوْدٌ عَلىَ بِدءِ

إجتِهَادات الشَيخ التُرَابي ... " عَوْدٌ عَلىَ بِدءِ " المحبوب عبد السلام منذ عقود ظل الشيخ الترابي يطرح رؤيته في تجديد الفكر الإسلامي وفق إطار كلي أصولي، أتاحته له ثقافته الفقهية الشاملة و تخصصه في القانون الدستوري المقارن و عمله السياسي الناشط في مجالاتها كآفة . فهو صاحب رؤية متكاملة في تجديد علم أصول الأحكام أو (أصول الفقه) كما يسميه الدارسون ، لم تكن تتيسر له لولا نشأته الخاصة و خبرته الواسعة و خلواته الممتدة في أغوار المحابس و السجون ، و هو أمر لم يتجدد في التاريخ الإسلامي منذ الإمام الشاطبي (صاحب الموافقات) ، إذ قدم أطروحته المتكاملة في الأصول منذ العام 1977 و ظل يعبر عنها في جملة مساهماته النظرية و العملية : ( قضايا الوحدة و الحرية 1980 ، تجديد أصول الفقه 1981 ، تجديد الفكر الإسلامي 1982 ، الأشكال الناظمة لدولة إسلامية معاصرة (قطر 1982) ، تجديد الدين 1984 ، منهجية التشريع 1987 ) و على ذات منهجه الذي يؤصل الشورى سبيلاً للعلم ، فقد بسط أطروحته في ( تجديد أصول فقه الأحكام ) على جملة من العلماء و المختصين إبان توليه منصب وزير العدل 1979 – 1983 ، و ظلت الحلقات تعقد بمكتبه بديوان النائب العام و تدير المداولة و الحوار حول المراجعة الشاملة للأصول التي حوتها 80 صفحة خرجت من سجن كوبر بعد سنوات الإطلاع و المدارسة و الحوار في الداخل. و مهما تكن تلك الأطروحة ملتزمةٌ مناهج الأصول و مصطلحات الفقه و القانون فإن جذورها ممتدة في عبرة سيرة التاريخ الإسلامي و أصول دورة الإحياء و البعث ثم الخمول و الموت أو النهضة و الفترة ، التي توالت على المسلمين في الفكر و العمل منذ ميلاد الرسالة و حتى آخر أجيال المسلمين ، بل و تقارن ذلك إلى دورة تاريخ التجديد و البـِلـَى في سيرة مشهور الأديان الكتابية السماوية لا سيما عبرة تاريخ اليهود و النصارى على سنة القرآن الذي يكاثف ذكرها تصويباً لجليل موعظتها . فالإجتهاد في الأصول - فضلاً عن الفروع - هو ما دعى إليه غالب علماء حركة الدعوة و البعث المعاصرة ، و صدرت عنهم بذلك كثير من المساهمات و الأطروحات ، و خصصت الأعداد الأولى من مجلة "المسلم المعاصر" التي إستهلت صدورها عام 1980 في الدعوة لهذا الهدف الكبير و جاءت الدعوة بأقلام أكبر الرموز ( يوسف القرضاوي ، جمال الدين عطية ، محي الدين عطية ، أحمد كمال أبو المجد ، عبد الحليم أحمد أبو شقة ... إلخ ) ، إلا أن الدكتور حسن الترابي ظل أكثرهم مقاربة لهذه الدعوة و أوسعهم شمولاً و تأصيلاً لمواضيعها . و إذ أن لكل فكرة سياقٌ و مناسبة يخل بها و يضرها أن تبتر عنه أو تجرد منه أو تؤخذ إلى سياق آخر ، فإن الأفكار الأصولية يسيئها و يخل بها مرض التنطع و التفريع و التجزئة الذي أصاب المسلمين - كما أصاب اليهود و النصاري - ، و تعرضت بوجه خاص - بوجه خاص – مساهمات الشيخ الترابي و إجتهاداته الكبيرة لكثير من التشوية بأسباب من هذه الأدواء ، التي قد تتوهم الخطر الأكبر في الصغائر و الفروع لإختلال فقه الأولويات عندها ، أو التي تتنطع بدوافع و نيات يشوبها في الغالب خطل عظيم ، إذ تخلط المواقف الإجتماعية و السياسية التي تميز بين المفكر الذي يبسط إجتهاده العلمي للمداولة الحرة و الرأي المسئول و بين قائد الحركة السياسية التي يلتزم مواقف حزبه كما يلتزمها سائر الأعضاء ، و لا تلزم آرائه الفكرية حزبه و لو كان حزباً إسلامياً يوحد السياسة إلى سائر شعاب الإيمان ، بل إن الحرب السياسية قد تدفع بدوائر الإستخبار المغلقة عن سعة حركة الفكر و الحوار و الإجتهاد الحر لِتـُخَلـِّط الأحاديث العلمية و لو مشفوعة بِأسماء منسوبة إلى المشيخة و العلم و لكنها مسكونة بالغيرة و الحسد و عقد النقص و شهوات الشهرة و الرئاسة و الجاه . كما محض الغزالي الإمام مجلده الأول في الإحياء لأمراض ( طبقة ) المُفتين و العلماء - شفاهم الله. فقد نشر الشيخ الترابي إجتهاده حول عودة المسيح -عليه السلام- عام 1982 في بحث - أصولي كذلك - لقىَّ حظاً واسعاً من النشر داخل السودان و خارجه بعنوان (تجديد الدين) "قـُدم في المنتدى الفكري بجامعة الخرطوم و نشر في مجلة جماعة الفكر و الثقافة الإسلامية و ظل ينشر منذ ذلك التاريخ، يقول الترابي : " و في بعض التقاليد الدينية تصور عقدي بأن خط التاريخ الديني بعد عهد التأسيس الأول ينحدر بأمر الدين إنحطاطاً مضطرداً لا يرسم نمطاً دورياً ، و في ظل هذا الإعتقاد تتركز آمال الإصلاح أو التجديد نحو حدث معين مرجو في المستقبل يرد أمر الدين إلى حالته المثلى من جديد . و هذه عقيدة نشأت عند اليهود و إعترت النصارى ، و قوامها إنتظار المسيح يأتي أو يعود عندما يبلغ الإنحطاط ذروته بعهد الدجال قبل أن ينقلب الحال بذلك الظهور ، و لعلها تحريف للبشريات التي جاءت في الوحي القديم بمبعث عيسى ثم بمبعث محمد عليهما السلام . و قد إنتقلت العقيدة بأثر من دفع الإسرائيليات إلى المسلمين ، و ما يزال جمهور من عامة المسلمين يعولون عليها في تجديد دينهم ، و فشوها هو الذي أغرى كثيرين من أدعياء المهدية أو العيسوية ، و بعضهم تحركه نية صادقة للإصلاح و التجديد لكنه بثقافته التقليدية و بتربية العامة الذين يخاطبهم لا يجد وجهاً لشرعية الخروج على القديم إلا بحجة المهدية النهائية . و لعل تلك العقيدة هي التي ألهت المسلمين عن القيام بعبء الإصلاح و أقعدتهم في كثير من حالات الإنحطاط المستفز ، مرجئة ينتظرون صاحب الوقت. و مهما يكن فإن منطق العقيدة القرآنية حول تاريخ الدين لا يتيح مجالاً بعد النبي الخاتم لإنتظار عاقبٍ يستأنف النبوة أو ينسخ من الشريعة السماحة التي تغري أهل الكتاب على المؤمنين ، بل هدي القرآن لخلف المؤمنين إن رأوا تغيراً أحالهم إلى فسادٍ و ذلٍ أن يردوا ذلك إلى تـَغَيـُر ما بأنفسهم فيتيوبوا إلى الله فيتوب عليهم بالصلاح و العزِ ." إنتهى . و إذ يبدو الهم الأصولي الفقهي و الإجتماعي التاريخي بيناً في قراءة الشيخ الترابي المتجددة للنصوص وفق السنن و السير في عبرة أهل الكتاب و عبرة المسلمين و التي تجلت عبر مللهم و نحلهم و شققتهم شيعة و سنةً إلى اليوم ، فإن البحث في نزول المسيح أو خروج المهدي حفلت بها المباحث الإسلامية من لدن إبن خلدون (في المهدي أربعين حديثاً كلها ضعيفة - " المقدمة " ) إلى آوان دورة التجديد التي حمل لواءها رشيد رضا و أستاذه محمد عبده : يقول الشيخ رشيد رضا " مجلة المنار ، المجلد 28 ، ص 756 ) : " إن الأحاديث الواردة في نزول عيسى عليه السلام كثيرة في الصحيحين و السنن و غيرها و أكثرها واردة في أشراط الساعة و ممزوجة بأحاديث الدجال و في تلك الأشراط لا سيما أحاديث الدجال و المهدي إضطراب و إختلاف و تعارض كثير ، و الظاهر من مجموعها أنه يظهر في اليهود أكبر دجال عُرف تاريخ الأمم فيدعي أنه المسيح الذي ينتظره اليهود فيفتتن به خلق كثير ، و في آخر مدته يظهر المسيح الذي هو عيسى بن مريم و يكون نزوله في المنارة البيضاء شرقي دمشق و يلتقي بالمسيح الدجال بباب ( لَد) بفلسطين و هناك يقتل المسيح الصادق المسيح الدجال بعد حروبٍ طويلة تكون بين المسلمين و اليهود ، فنزول عيسى عقيدة أكثر النصارى و قد حاولوا في كل زمان منذ ظهر الإسلام بثها في المسلمين ، و ممن حاولوا ذلك بإدخالها في التفسير وهب بن منبه الركن الثاني بعد كعب الأحبار في تشويه تفسير القرآن بما بثه من الخرافات ). إنتهى حديث الشيخ رشيد رضا الذي لا يختلف في قراءته و تأويلاته عن المغازي التي أشار إليها النص السابق للشيخ الترابي. أما الذين يستعظمون نقد كتاب البخاري و كتاب مسلم كأنه الكفر البواح فقد أصابتهم شعبة أخرى من شعاب أمراض التنطع و الجهل و الغفلة و خلط الأولويات - فقد دخلت خيل نابليون الأزهر و المسلمون ممسكون بهما - تلتبس عليهم علوية القرآن و حفظه و عصمته دون أي كتاب آخر . و أشير في هذا المقام فقط لتيسير الأمر على الباحثين المجدين إلى تعليق الشهيد سيد قطب على حديث البخاري و مسلم في السحر الذي أصاب النبي (ص) ، يقول سيد قطب : " و قد وردت روايات بعضها صحيح و لكنه غير متواتر أن لبيد بن الأعصم سحر النبي (ص) في المدينة قيل أياماً و قيل أشهراً حتى كأنه يخيل إليه أنه يأتي النساء و هو لا يأتيهن و حتى يخيل إليه أنه فعل الشئ و أنه لم يفعله في رواية : و لكن هذه الروايات تخالف أصل العصمة النبوية في الفعل و التبليغ و لا تستقيم مع الإعتقاد بأن كل فعل من أفعاله و كل قول من أقواله سنة و شريعة كما أنها تصطدم بنفي القرآن عن الرسول (ص) أنه مسحور . " (في ظلال القرآن ، المجلد الأخير - تفسير سورة الفلق ) ، و هو نفس رأي الشيخ محمد عبده الذي وكّد أن مكية المعوذتين تنفي عنهما أي علاقة بالأحاديث الصحيحة التي تربطهما بالسحر المزعوم على النبي (ص) . إن الإجتهاد الإجتماعي الأكبر للدكتور حسن الترابي هو مساهمته الفذة في تحرير المرأة المسلمة وفق أصول القرآن و أصول السنة و السيرة ، بعد أن إستلبت شعار (التحرير) مناهج الفكر الغربي و أصول فلسفته المادية الإجتماعية ، و حاولت مسخ المرأة المسلمة في الأخرى الغربية . فالشيخ الترابي الذي أسس بجلاء أطروحته عن المرأة على أصل التكليف المستقل لكل مؤمن كما هو لكل مؤمنة و المتماثل لكليهما وفق ظرفه و حاجته ، بعد أن عُزلت المرأة المسلمة قروناً بأثر طغيان التقاليد على السنن و ألحقت تبعاً للرجل وأهملت عن كل كسب في العلم أو العمل . و قد صدرت النسخة الأولى من كتابه المعروف ( المرأة بين تعاليم الدين و تقاليد المجتمع ) في عام 1974 بعنوان آخر ( رسالة المرأة ) ، و ورد في تلك النسخة بالذات حديث ( أبي داؤود ) عن أم ورقة التي أذن لها الرسول (ص) في إمامة أهل بيتها في الصلاة . و هو ذات الموقف الذي إلتزمه في كتابه الأخير " السياسة و الحكم " الصادر عن دار الساقي عام 2003 ضمن أطروحة أكثر شمولاً ، يقول الترابي في فصل (سلطة الأمارة و التنفيذ و الإدارة ) : " الشرط الثاني الذي كتبه التاريخ على الفقه كأنه حكم قاطع خالد هو الذكورة لولاية الأمارة العليا ، و قد سبق البيان أن الذكر و الأنثى في أصول الدين و تكاليفه سواء ، الفضل لمن آمن و عمل صالحاً . و أنهما لهما في سياق أسرة الزواج قسمة تكاليف متعادلة كلاً بما فضله الله على الآخر ، و أنهما في إطار السياسة في شركة موالاة أمراً بالمعروف و نهياً عن المنكر أو مصابرة و مهاجرة و جهاداً و أيما ولاية على أمر عام ، و لأن الله فاضل و مايز بينهما لتأدية وظائف زوجية و والدية قد يخف التكليف أو يشتد بعد البوح السواء حتى لا يعوق في أيهما ما هو مهيأ له ". ثم يقول الترابي في ذات السياق : " و لكن فقهاء أحكام السلطان لم يتركوا تولية المرأة أمراً لتقدير شورى المسلمين يصرفونه غير مناسب ، بل منعوه بحكم شرط الذكورة خالداً و بعضهم عمم الحكم لأيما ولاية أو قضاء، و قليل من أباح لها ولاية القضاء خصومات جنائية أو تعاملية و ولايات العمالة الصغرى التي عرفت منذ سنة عمر بن الخطاب مع الشفـّاء ، و غالبهم منع إمامة الصلاة رغم الحديث الذي ولاها الإمامة و هي أهل و أولى بها" (السياسة و الحكم ص 286) و للذين لا يعرفون سُنة عمر بن الخطاب مع الشـَفـّاء فقد وَلاها شيئاً من أمر السوق . و أما الحديث الذي أورده أبي داؤود في كتاب الصلاة ، باب إمامة النساء : عن عبد الرحمن بن خلاد عن أم ورقة أن الرسول (ص) لما غزا بدراً قالت له : يا رسول الله إئذن في الغزو معك أمَرِض مرضاكم لعل الله أن يرزقني الشهادة . فقال لها قري في بيتك فإن الله عز و جل يرزقك الشهادة و كانت تسمى الشهيدة ، و كانت قد قرأت القرآن فستأذنت النبي (ص) أن تتخذ في دارها مؤذناً فأذن لها . قال عبد الرحمن و كان الرسول (ص) يزورها فجعل مؤذنا يؤذن لها و أمرها أن تؤم أهل بيتها ، فأنا رأيت مؤذنها شيخاً كبيراً . (إنتهى الحديث) فإجتهاد الشيخ حسن الترابي كما حملته كتبه الموثقة قديم قبل عقود من صلاة الدكتورة "آمنة ودود" في أمريكا ، قد يوافي رأي الإمام الطبري في جواز الإمامة الكبرى للمرأة أو رأي إبن حزم الظاهري في جواز إمامة المرأة لزوجها إذا كانت أحفظ منه و أقرأ للقرآن ، و قد يوافي رأي الأستاذ أبو الأعلى المودوي صاحب كتاب (الحجاب) الشهير في أواخر العقد الخمسين الماضي عندما أيّد ترشيح الحاجة فاطمة جناح شقيقة القائد الباكستاني محمد علي جناح على قائد الإنقلاب المشهور يحي خان ، و أوضح أن شرطي الإمامة هما الدين و الذكورة وأن الدين أولى و أن الحاجة فاطمة تستوفي شرط الدين و إن لم تستوفي شرط الذكورة ، و أن يحي خان يستوفي شرط الذكورة و لا يستوفي شرط الدين و دعى أنصاره من ثم للتصويت لها . و هو - كذلك - إجتهاد لا علاقة له بالمشروع الأمريكي الصهيوني ، كما سارع منخذلة الشيوخ ممن حاولوا (إعادة إكتشاف العجلة وفق السنة). فالمشروع اليميني الديني الأمريكي الديني يؤمن بعودة المسيح و يرى في قيام دولة إسرائيل معجلاً لأوانه و لخراب اليهودية من ثمّ ... أو كما إستخفت الإثارة الصحفية آخرين فانتحلوا لإجتهاد الشيخ وصفاً ( الصلاة المختلطة ) ، فرأي الشيخ الترابي حول صف الصلاة واضح قديم لمن يبتغي الحق دون الإثارة وفي أشد كتبه إنتشاراً و شهرة ، يقول الترابي في كتاب المرأة بين تعاليم الدين و تقاليد المجتمع ص16 ، طبعة مركز دراسات المرأة : " و لا ينبغي أن يزدحم الرجال و النساء بحيث تتقارب الأنفاس و الأجساد إلا لضرورة عملية كما في الحج و حيثما وجد الرجال و النساء في البيوت أو الطرقات أو المجالس العامة يجب أن تتمايز الأوضاع شيئٌ ما . لذلك تمايزت الصفوف في الصلاة لأن في صفها يتراص الناس مقاماً و مقصداً و لأنها موضعٌ يتوخى فيه التجرد الشديد من كل صارف عن ذكر الله . و قد إتخذ الرسول (ص) باباً خاصاً للنساء (أبو داؤود) : و قد روى البخاري عن أم سلمة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله (ص) إذا قام النساء حين يقضي تسليمه يمكث هو في مقامه يسيراً قبل أن يقوم ) إنتهى. إن غالب خطاب الشيخ حسن الترابي و محاضراته العامة قدمت في معاهد العلم العليا و الجامعات ، إلا جمهور يُقدر فيه درجة أرقى من العلم و الثقافة ، فجاءت أغلبها تصوب نحو كليات المعاني و أصول القضايا ، إلا أن غالب الموضوعات التي شاعت في أحاديث الناس ، كانت في مساحة الأسئلة التي تتاح للحاضرين بين يدي المحاضر ، و أفصحت كذلك عما يشغل جمهورنا حتى المثقف عن أمهات القضايا و الأسئلة و عبرت عما شاب فكرنا من قصور و تجزئة و ذرية ( كما يصف مالك بن نبي العقل المسلم المعاصر في كتاب مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي و كتاب مشكلة الثقافة و كتاب وجهة العالم الإسلامي و كلها مباحث جليلة في هذا الباب ) كما عبرت عما يخالط نفوسنا من نفاق و رياء . فحديث الذبابة أو حادثتها الشهيرة جاءت في سؤال لسائل بعد محاضرة عن ( تجديد أصول فقه الأحكام ) بجامعة محمد بن سعود في مدينة الرياض السعودية في العام 1978 ، و كانت الإجابة في سياق مباحث أصول العلم الديني الشرعي و أصول العلم الديني الطبيعي و مساحات الإجتهاد فيهما ، و هي قضية ظلت تطرح في كتب الأصول و الفقه و المقاصد من قديم و حديث ( الرسالة للشافعي ، و رد واصل بن عطاء المعتزلي حول حجية المعقول على المنقول ، و أبو عبيدة القاسم بن سلام صاحب كتاب الأموال 242هـ ، و حجة الله البالغة للكندهلوي ). و كذلك ما يعرف بموضوع ( زواج المسلمة من الكتابي ) جاء في سياق رد على سؤال لمسلمة أمريكية حديثة عهد بالإسلام ، أسلمت دون زوجها و هي تطمح في إسلامه ، و بينهما الأولاد و الأموال و البيوت و الشركات ، و كان ذلك في محاضرة في مؤتمر حول الأسرة بمدينة "لارسنغ " بولاية " ميتشيغن" عام 1980 ، و لم يقطع الشيخ فيها برأي و لكنه قلـَّب لها وجوه فقه المسألة كما يعرفها جيداً و دعاها للتفكير المستقل في قضايا مجتمع جديد يشبه مجتمع الإسلام الأول الذي كان ينتقل نحو الإسلام و ليس مثل حاضر مجتمعات المسلمين المستقرة في الإسلام أباً عن جد . فالترابي لا يحيط رأيه بأي قداسة و لا يسميه فتوى ، بل هو يعتبر كل فتوى إجتهاد أو وجهة نظر ، و رأيه للمسلمة الأمريكية هو نفس الإجتهاد الذي أقره المجلس الإسلامي الأوروبي في عام 2003 ن و طلب الشيخ يوسف القرضاوي أن تذيل الفتوى بتقديره الشخصي و شكره للدكتور حسن الترابي ، الذي سمع منه هذا الرأي قبل عقدين و أنه عثر عليه بعد ذلك في كتاب ( إعلام الموقعين لإبن القيم ). أما القضية التي يطلق عليها (حد الردة) فقد جاءت بعد محاضرة بجامعة الخرطوم ( حول قضايا تطبيق الشريعة ) في العام 1979 ، تحديداً من تلامذة الفكر الجمهوري الذين إستنكروا إجتهاد الشيخ الترابي ( المرتد ردة فكرية بحتة لا يقتل ) ، و أصدروا في ذات ليلة المحاضرة كتيباً يحمل عنوان ( الترابي يخرج على الشريعة بإسم تحكيم الشريعة ) و هو - على أية حال - الرأي الذي يتبناه غالب رموز الفكر الإسلامي المعاصر ( من المستشار سالم البهنساوي إلى راشد الغنوشي مروراً بالدكتور محمد سليم العوا و الدكتور طه جابر العلواني ) و يخالفون به جمهور الفقهاء القديم. و كما إضطربت بالجاهلين و المرجفين الإجتهادات التأصيلية الفقهية للشيخ الترابي ، إضطربوا إزاء مصطلحه الأصيل و لغته الفذة العميقة و لم يقدروا سعيه المجتهد في سبيل لغة ( فصيحة جميلة ) ، أو كما قال في مقدمة كتابه المصطلحات السياسية في الإسلام : " أصاب المسلمين بؤس في فقه حياتهم السياسية و مقاصدها و وسائلها و نظمها و علاقاتها ، و أخذت بعض الكلمات التي تشير بأصولها الصرفية إلى توحيد ديني عام لكل شعاب الحياة ، تطور إلى دلالة خصوص يحصر عمومها إلى محدود . فكلمة (فقه) - مثلاً- كان معناها الفهم العميق لآيات الله في كتاب التنزيل ، ثم على الفهم الساذج في ذلك لا يبلغ حكمة الله ، ثم على الحفظ بغير شئ من الفهم. ". و من ذلك ما توهمه البعض أن مصطلح (التوالي) الذي جانب به الشيخ الترابي الظلال غير التوحيدية لكلمة (التعددية) ، فظنوه تحايلاً إبتدعه لمنع الأحزاب في دستور 1998 ، و هو مصطلح إستعمله في كتاب (الإيمان - أثره في حياة الإنسان ،1973) و (بحث الإسلام والدولة القطرية، 1983) و كتاب (الحركة الإسلامية في السودان، التطور، الكسب، المنهج، 1989) ، و هو ذات الأصل الذي إستعمله اللبنانيون بغير كثير حرج و هم يقسمون ساحتهم السياسية إلى موالاة و معارضة. كما ظن آخرون أن مصطلح (الإجماع السكوتي) الذي تداول حوله فقهاء الأصول منذ القرن الثاني الهجري من نحت الدكتور الترابي ، و إن كان هو من بعثه و استعمله في سياق العملية الإنتخابية المعاصرة بعضاً من نهجه في تأصيل اللغة و بث الحياة في مصطلحاته الدقيقة المهجورة . إن تفاصيل رؤية الشيخ حسن الترابي لجملة هذه القضايا ، مظانها الحقة هي أدبه المكتوب و كتبه المنشورة ، و التي يتعهدها قليل من الباحثين اليوم بالدراسة المعمقة و يعكفون عليها جماعات ، كما كان الحال في سالف عهد الحركة الإسلامية السودانية ، أو كما هو اليوم في بعض مدن أوروبا ( السياسة و الحكم 527 صفحة، التفسير التوحيدي للقرآن المجلد الأول 942 صفحة، المصطلحات السياسية في الإسلام 83 صفحة، أصول فقه الأحكام "تحت التحرير" ، الأعمال السياسية الكاملة "تحت الطبع" 500 صفحة و غيرها ). إن النظر الموضوعي يؤكد أن الشيخ حسن الترابي أقل الناس حاجة لأصوات السمعة و الشهرة فقد بلغ صيته الآفاق و هو اليوم مرجع و قدوة ، و رغم العمر الممتد الذي قضاه محاضراً و مخاطباً و كاتباً ، فهو أقل العلماء المفكرين ميلاً إلى التفريع و تكثيف الشواهد أو إلتماس الأسماء أو نظم العنعنات ، سوى كثافة ظاهرة غالبة لآيّ القرآن في أدبه المكتوب ، و أن تناول إجتهاده و التفاعل معه يقتضي مسئولية أكبر لا تجدي معها الأخبار الصحفية التي تلتمس الإثارة ، فالترابي المفكر العظيم لا يبسط الريب و الشكوك و إنما يقدم عصارة علم كبير و إطلاع مثابر مصابر و دراسة مجتهدة ... لو أنهم يعلمون ، لو أنهم يقرأون.