نعم لاجتهادات الترابي التقدمية حول المرأة
نعم لاجتهادات الترابي التقدمية حول المرأة
* خالد الحروب / كامبردج
إذا حدثت جريمة وشهدتها إمرأة معروفة بذكائها وحاصلة على دكتوراه في القانون والمحاماة، وتشتغل محامية أو قاضية، ومتحدثة لبقة، وفي نفس الوقت شهد الجريمة رجل معروف بمحدودية قدراته العقلية، وعاطل عن العمل، ولا يستطيع أن يصف ما رأى فبأي منطق يمكن أن تُرفض شهادة تلك المرأة المتفوقة وتُعتبر نصف شهادة ذلك الرجل المتواضع القدرات؟ وإذا تقدم لخطبة فتاة مسلمة شاب نبيل الأخلاق، وكامل الأهلية، ومعروف بصدقه وحسن معشره، وأحبته ورغبت فيه، وفضلته على شاب آخر ذميم الخلق، ومعروف بكذبه وسوء معشره، وغير مؤهل لها، ولم تحبه أو ترغب به، فبأي منطق يُرفض زواج الفتاة من الشاب الأول لأنه غير مسلم، ويُقبل الثاني لأنه مسلم؟ إذا وجدت الفتاة نفسها أمام خيار صعب، خاصة في الغرب، بين مسلم غير نبيل وكذاب وخداع، ورجل غير مسلم لكنه نبيل وصادق وشريف، هل من الدين أو المنطق أو الحق أو العدل أو السوية النفسية دفعها لاختيار الأول على الثاني؟ سيقول قائل طبعاً إن المسلم غير المستقيم ستتحسن أحواله في قادم الأيام ولن يظل على حاله المعوج، بالإضافة إلى أن مستقبل الأطفال، وهو الأهم، سوف يُضمن بحيث يبقون مسلمين وهكذا. هذه المحاججات تتعامى عن نقطة أساسية وهي رأي المرأة نفسها ورغبتها وميلها، ولا تلقي لها بالاً وكأن مسألة الزواج عملية بيع وشراء وتعاقد خال من العواطف والرغبات. إضافة إلى ذلك وماذا لو لم يستقم حال ذلك المسلم سيىء الخلق؟ كما من يضمن حسن أو سوء إسلام أبناء الأزواج المسلمين أنفسهم، حتى يُشار إلى نقطة ضمان دينهم إن كان والدهم غير مسلم. وفوق هذا وذاك أليس ثمة افتراض في كل هذه المحاججات قريب من العنصرية يقول بأن المسلم هو أنبل من الآخرين بعمومهم، حتى لو كان شريراً وخسيساً؟
حسن الترابي قال، على ما نقل عنه في محاضرة له في الخرطوم، إن شهادة المرأة كشهادة الرجل وأن هناك تفسيرات ممكنة للنص القرآني الواضح في هذا المجال والذي يقول بأن شهادتها نصف شهادة الرجل.كل ما يأمله كثيرون هو أن يتمسك الترابي بفتواه هذه رغم الهجوم الكاسح عليه، لأن هذا هو الاجتهاد الحقيقي، وهذا ما يريده مسلمو هذا العصر. وعوض أن يُشتم الرجل طولا وعرضاً، فالأولى أن تؤصل فتواه ونظرته وتُعزز. وقال أيضا إن زواج المسلمة بغير المسلم جائز كما هو زواج المسلم بغير المسلمة. وهذا أيضاً فيه تعبير أعمق عن الروح الإنسانية في الإسلام التي تساوي بين الأفراد وتعلي من جوهر الإنسان الحر ضد فكرة الإنسان المستعبد التي جاء الدين ليحاربها.سيوفر تمسك الترابي بهذه الفتوى حلاً لألوف من الحالات الإنسانية التي يسمع بها المرء هنا وهناك ويظهر بها الدين وكأنه مقطع للعلاقات الاجتماعية والإنسانية بدل أن يكون المبادر لتعميقها.
معارضو الترابي في هذه الفتاوى هم الغالبية الكاسحة من علماء النص الذين ترتعد فرائصهم كلما نطق عالم خارج سربهم بفتوى فيها اجتهاد حقيقي. يظن علماء النص أن العلم والفقه في حفظ النصوص الطويلة والحواشي ولطم السائل بها عند سؤاله عن مسألة معينة. والواقع أن وظيفة الفقيه النصي في عالم اليوم صارت لا معنى لها، أي أن يحفظ نصوصاً ثم يرشقها في وجه السائل. فكل هذه النصوص من متون الأحاديث، إلى الصحاح، إلى تفاسير القرآن، إلى مرويات الصحابة، إلى قصص التابعين كلها موجودة على الانترنت وأقراص الكمبيوتر.
وما على السائل سوى البحث عن ''الكلمة المفتاح'' حول قضية معينة حتى تأتيه كل النصوص التي كان يُفاخر الفقيه النصي بأنه يحفظها. باختصار على السادة الفقهاء النصيين أن يستقيلوا دفعة واحدة فلم يعد للمجتمع حاجة بهم. وعملهم الراهن في أغلبه لا يتعدى تعزيز الجهل ونشر صورة سيئة عن الدين، والتغرير بالغالبية الأمية في مجتمعاتنا وهي الغالبية التي تحرص على احتضان التدين والالتزام به. هذه الغالبية تحتاج إلى فقهاء مجتهدين، لا نصيين، يواجهون مشاكل اليوم بفتاوى متولدة من واقع اليوم، وليس بالحفر في القرون الماضية حيث لا الزمان ولا المكان ولا الحوادث متطابقة.رجال الدين النصيون يفضلون السلامة وعدم نقاش هذه الأمور وتركها تأكل في عقول الأجيال الشابة، وتنهش من قناعاتهم بصمت. وكل ما يبدعون به للرد على مثل تلك التساؤلات هو القول بأنها ''تخرصات رأي'' وتعتمد على العقل ولا تلتزم بالنص الواضح الذي يحرم ويحلل. والمشكلة تقع هنا بالضبط وهي نعم إن تلك التساؤلات وغيرها كثير تلح بلجاجة على عقول ملايين من مسلمي اليوم، لكن ليس ثمة جرأة لنقاشها.
ومحاولة إلقام كل من يرفع صوته للحديث حولها بنص مسكت هو هروب جبان من واقع تزداد الشكوك فتكاً به. وعندما يأتي صوت من داخل الفكر الإسلامي مثل حسن الترابي يمتلك الجرأة والقدرة الفقهية على التصدي للتساؤلات الصعبة ويجتهد فيها ويقدم فتاوى تُصالح العقل والمنطق مع النص فإنه يُواجه بكل تهم الخروج عن الملة والزندقة وإرضاء الغرب!
في كل يوم وساعة يواجه المسلمون في أيامنا هذه مسائل دينية لا تبدو منطقية أو عقلية ولا تساير العصر، ولا يجدون لها حلولاً بالتفسيرات الجامدة للنصوص. وعندما يلجأون إلى الفقهاء أو المفتين حتى يساعدوهم في إراحة ضميرهم الديني بإجراء توافق بين تلك المسائل والنص الديني فإنهم بعفوية تدينهم الطبيعي يعبرون عن احترامهم وحرصهم على أن تظل ممارساتهم في إطار من الشرعية الدينية. لكن عندما يُقرّعون مرة تلو مرة حتى لمجرد طرحهم تلك المسائل، وعندما يُطالبون بأن يغلقوا عقولهم ويحظروا عليها حتى التفكير، فإن الفقهاء والمفتين الأشاوس يتمكنون من إسكاتهم في الظاهر، لكنهم يعمقون شكوكهم في السرائر ويهزمون النص الديني الذي يحاولون الدفاع عنه.
صحيح أن حسن الترابي ليس محل اجماع لا سياسيا ولا فقهياً. سياسياً: هو إسلامي براغماتي من نوع خاص، فقد ولغ في السياسة حتى آخرها، تحالف مع هذا وانشق عن ذاك، أطلق دعوات منها ما رفضه كثيرون، ومنها ما هلل له كثيرون. فقهياً: هو أيضا إسلامي من نوع خاص فقد كان على الدوام تقدميا في نظرته الاجتماعية، خاصة لدور المرأة في المجتمع. وخصومه قبل أتباعه يعترفون له بالشجاعة في فتاواه سواء إزاء عمل المرأة وتبوئها مناصب عالية، أو المصافحة، أو الاختلاط أو سوى ذلك مما يعتبر عند جمهرة الفقهاء النصيين إراقة دم الإسلام! لكن رغم خلافيته وعدم الاجماع عليه تعتبر آراؤه الاجتماعية طليعية وسوف تصبح هي الغالبة لكن بعد وقت طويل يكون فيه المسلمون قد خسروا سنوات إضافية تضاف إلى العقود الماضية.
الاربعاء 29 ربيع اول 1427هـ الموافق 26 نيسان 2006
<< Home