Thursday, May 25, 2006

كي يعتلوا الرقاب ويذلوا الأعناق--الحاج وراق

مسارب الضي
كي يعتلوا الرقاب ويذلوا الأعناق!
الحاج وراق
تنطلق الدعوة للإنفصال في الشمال من مواقع شتى، أما وسط العامة فانها تعبير عن اليأس والإحباط الناجمين عن استمرار الحرب ومعاناتها، وهذه مشاعرمؤقتة يمكن أن تزول بزوال أشراطها، هذا من جانب، ومن جانب آخر هي تعبير عن العنصرية، وكان هؤلاء العنصريون يراهنون في السابق على امكان استتباع الجنوبيين بالقهر، فروجوا لقدرة طغمة (عبود) على اخضاع التمرد بحرق غابات الجنوب فلما اتضح بالممارسة العملية استحالة ذلك واستحالة حرق الجنوب دون حرق الشمال ايضا، يلجأون الآن الى دعوة الإنفصال!
وغض النظر عن مآلات العلاقة مع الجنوب فإن العنصرية موقف شائه أخلاقياً ، ولسبب بسيط، وهو أن معايير ازدراء الآخر إذا طبقت بعدالة واستقامة فإنها تنطبق على الذات بمقدار انطباقها على الآخر! فليكن المعيار المعتمد لون ا لبشرة مثلا، أو ليس الشماليين (سوداً) بالنسبة للعرب في البلدان الاخرى ومقارنة بالبيض في أوروبا وامريكا؟ او فليكن درجة المدنية - وهذا معيار مثير للجدل حيث التطور الانساني عادة ما يكون تطوراً غير متسق، فيمكن لمجتمع أن يتقدم في جانب ويتخلف في آخر، ولكن فليكن، فاذا كان الشمال متقدما عموما على الجنوب فإن أوروبا متقدمة على السودان باجزائه المختلفة، فهل يحق للأوروبيين ازدرائنا اواحتقارنا؟!... ان اهم تقدم اخلاقي حققته الانسانية في تاريخها الممتد انما هو احترام كرامة كل فرد بحكم انسانيته وبغض النظر عن عرقه او لونه او ديانته اونوعه او ذكائه او تعليمه او وضعه الاقتصادي. والذين ما زالوا يقبعون في العنصرية انما يتخلفون عن أهم انجاز أخلاقي حققته الانسانية في تاريخها قاطبة.
وهكذا يشكل تخطي العنصرية - وغض النظر عن العلاقة مع الجنوب ـ احد اهم شروط استكمال انسانيتنا في الشمال. هذا على المستوى الاخلاقي، اما على المستوى السياسي، فكما السجان يقيد نفسه بمراقبة سجينه فكذلك ما من شعب قيد شعباً آخر الا وقيد نفسه ايضا، وذلك لأن القيود انما تتطلب نظما سياسية على شاكلتها - نظماً طغيانية. وهكذا استنتجت الانسانيةالمتمدنة انه ما من شعب يستعبد شعبا آخر يمكن ان يكون أو يظل شعبا حراً.
ثم ان العنصرية وبطبيعة النظم التي تقوم عليها - وهي بالضرورة نظم اقصائية - ليس لها من نقطة توقف، وتجربة النازية خير برهان على ذلك - بدأت بمعاداة السامية، ثم انتقلت الى معاداة الشعوب الاخرى، ثم الى معاداة الشيوعية، ثم الى الديمقراطيين والليبراليين، والى الكاثوليك والبروتستانت، وبعد ان اوقعت خسائر جسيمة وسط كل هؤلاء انتقلت الى ذبح النازيين انفسهم، إما بدعوى مؤامراتهم المزعومة على الزعيم الملهم او بتهمة غياب الحزم اللازم في مواجهة الاعداء! وهكذا استنتجت الانسانية بأن الاغلال التي نحضرها لتقييد ايادي الآخرين عادة ما تنتهي الى تقييد ايادينا ذاتها! والعنصرية تجاه الجنوب تذهب في ذات الاتجاه، ستنتقل الي ابناءالغرب، ثم الي ابناءا لشرق، ثم الى المحس والدناقلة، ثم الى الطابور الخامس، وهذا طابور يمكن ان يسع كل التلاوين الفكرية والسياسية وعادة ما تنتهي حدوده بجز رقاب الإخوة والرفاق القدامى! هذه عبرة عامة اسماها دارسو التاريخ بقانون القصاص التاريخي واسماها العارفون بقانون المعاوضة: (كما تدين تدان) او (من يعمل مثقال ذرة شرا يره)، عبرة تؤكدها تجارب التاريخ جمعاء، كما تؤكدها تجربة الإسلاميين السودانيين انفسهم! ورد الله غربة الدكتور الترابي!
* تلك اذاً اسباب الدعوة للانفصال وسط العامة - الإحباط والعنصرية - وكلاهما خاطئان - اما وسط .نخبة الاسلاميين فاضافة الى السببين المشار اليهما فإن السبب الآخر والأساسي الرغبة في استمرار الطابع الآحادي والإحتكاري للإنقاذ، اي بكلمة الرغبة في ا ستمرار إعتلاء الرقاب!
* وقد عاب علًّي الاستاذ/ علي يسن في عموده بصحيفة (الحياة) - وهو من الاسلاميين القائلين بالانفصال - عاب تفسيري لدعوتهم بأنها تصدر من مجموعات تود التضحية بوحدة الوطن كي لا تضحي بامتيازاتها غير العادلة وغير المبررة.
ولكنه وبعد يومين لا أكثر رد على نفسه بنفسه! فقد قال بإنهم كإسلاميين يعادون الديمقراطية لأنها تعتمد معيار الاغلبية، بينما عندهم الاكثرية دائما على ضلال، وبالتالي فالمعيار الصحيح اذا سيادة الافضل دينا وتقوى (!) غض النظر عن أعدادهم وغض النظر عن رأي الناس فيهم (!) ومثل هذا الرأى تصنفه العلوم السياسية في باب الفاشية! ولندع التصنيف ، لنطرح السؤال الجوهري: اذا لم يكن المعيار هو قبول الناس ورضاهم فكيف نحدد الأفضل دينا وتقوى؟! هل يملك الاستاذ علي يسن اجهزة خاصة لقياس الدين والتقوى كـ (دينوميتر) او (تقوى ميتر) تربط على أفئدة وضمائر عباد الله فتعطينا القراءات اللازمة؟! ثم الم يختلف البشر دوما - والمؤمنون تحديدا - في كنه ومضمون حكم الله؟ بل، ألم يختلف الصحابة رضوان الله عليهم - ولا يشك في ايمانهم - في مراد الله سبحانه وتعالى؟ فكيف اذا نعرف حكم الله ونفض الاختلافات بين البشر حوله؟! احتمالان لا ثالث لهما: إما على أساس الحرية وسلمياً وهذا يعني الديمقراطية وحقوق الإنسان . أو الثاني بالقهر والدماء، وهو الخيار الذي يعتمده حاليا الظلاميون من كل شاكلة، وقد جرب في الحكم وفي المعارضة، فانتج نماذج شائهة لايمكن ان تلهم احدا سويا: سواء في انقاذ التسعينات التي يودون اعادتها مرة اخرى وهيهات الا بتفكيك السودان! او في تجربة طالبان التي ضربت حجابا من القهر والقماءة على افغانستان، وكان من الوحشية البالغة بحيث عجزت عن ازاحته بقواها الذاتية فانفتحت للاجنبي يرفع عنها غطاء الظلامية ومعه (زمام) العزة والكرامة الوطنية!
أما في المعارضة، فسواء في الجزائر اومصر او السعودية اوا لسودان، ولأن معيارهم في ذاتهم وليس في مواقف وآراء الغالبية، فقد ولغوا في دماء الابرياء والعزل بلا وازع، بل وفتحواالنيران على الاطفال في المساجد! وان التتمة المنطقية لعدم العناية بمواقف وآراء الغالبية انما هي موقف الخليفي في فتح النار بدم بارد على الأطفال وفق فقهه المأفون بأنهم أبناء الكفار الفجار! وأى كفر وفجور إذا لم يكن استرخاص دماء الأطفال؟!
* والاستاذ/ علي يسن - وغيره من الأصوليين المعادين للديمقراطية - بمثابة (جزارى) نصوص، يقتطعون النصوص الدينية من مقاصدها الكلية ومن سياقاتها التاريخية والظرفية، ثم يعيدون عرضها في (سلخانة) منظوراتهم الفاشية، وكما يمكن فرز لحم الضأن من لحم الكلاب، فكذلك واجب الاستناره فرز جوهر النصوص الدينية عن اسقاطات الظلاميين عليها.
وأما النصوص الدينية التي يستغلها علي يسن في مراميه الآيديولوجية، وهي النصوص التي تتحدث عن (اكثر الناس لا يعلمون) اي عن جهل الاكثرية، فإنها لا تبرر الطغيان، كما لا تسوغ الوصاية والولوغ في دماء الابرياء، بل تثبت حقائق معرفية واخلاقية واجتماعية، تثبت ان المعرفة ليست بداهة ملقاة على قارعة الطريق وانما اشتغال ومعاناة ومكابدة للمتخصصين، وتثبت كذلك ان سلطان العادة غالبا ما يشكل عائقا نفسيا واخلاقيا لدى عامة الناس، وتثبت ان المعارف الجديدة عادة ما تصطدم بمصالح اجتماعية متكونة وبأمزجة العوام وبعدم استعدادهم التلقائي لقبول الجديد، ومن ثم فان هذه النصوص لا تستدعي الاستبداد وانما تستدعي دور النخب - الفكرية والعلمية والسياسية والارشادية - لتوجيه وتوعية وقيادة العامة. فاذا توفرت الحريات - حرية المناقشة والتداول والتعبير - فان الغالبية من الناس غالبا ما تختار الخيار الافضل! وان لم يحدث ذلك فإن على النخبة الا تيأس او تسعى للوصاية والسيطرة وانما عليها تطوير خطابها ومواصلة دورها في التوعية والتنوير الى أن تحوز علي عقول وأفئدة الغالبية.
فإذا لم يكن فهمنا هذا صحيحا فكيف يفسر علي يسن النصوص مثل (ألسنة الخلق اقلام الحق) و(لا تجتمع امتي على ضلال)، بل وكيف يفهم الأصول الدينية القاطعة مثل: (لا اكراه في الدين) و (ذكر انما انت مذكر، لست عليهم بمسيطر)؟!
ثم كيف يروغ عن المعيار الواضح في الحكم على ثمار أى انسان: (خيركم خيركم للناس)؟! الناس هكذا مجردة عن العرق والنوع والدين!!
* ان الذين يعادون الديمقراطية كنظام حكم انما يريدون يد الحكام طليقة من كل مراقبة اومساءلة، يريدون حاكما يعربد كما يهوى في عماء المحكومين... فلماذا؟! لأن الديكتاتورية ظلام، ويريد الظلام اللصوص والمفسدون والمحتكرون! فهل ترى اتضح الآن للاستاذ علي يسن من هو الساعي حقا وراء قراقوش؟!
* وهكذا فإن دعوة الانفصال لدى الاسلاميين الانفصاليين انما هي التعبير الآيديولوجي لرغبة الدوائر الاكثر تطرفا وظلاما في الانقاذ لاستعادة مربعها الاول، انقاذها الأولى،أي اندلس احتكارها وهنائها، وهي بالطبع فردوسهم (هم) ولظانا (نحن)، إنه الحنين الى استمرار اعتلاء الرقاب واذلال الاعناق، ولذا فالرهان هنا لا يتعلق بالجنوب وحده وانما كذلك بمآلات الشمال نفسه!